حرص السلف الصالح أشد الحرص على الأوقات، خصوصا فيها الأعمال التي حباها الله تعالى بمزيد فضل ونوال على غيرها من القربات؛ من صلاة وصيام وذكر وقيام ونحوها من المبرات، وقد خص الله -سبحانه وتعالى- كل وقت منها بوظيفة من الوظائف التي تؤدى في الشهور والأيام والساعات.
ومن هذه الأيام والليالي؛ ليلة النصف من شعبان ونهارها والتي توافق الأحد 25 فبراير من هذا العام 2024، فقد جاء فيها أحاديث وآثار، في فضل قيامها، وصيام نهارها، فسأذكر في هذا المقال الأحاديث من حيث الصحة والضعف، وأحكام الأعمال الفاضلة فيها مسترشدا بأقوال العلماء الأجلاء الراسخين في العلم.
جاء عنه ﷺ أنه قال: هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم
أولا: ما جاء في فضائل ليلة النصف من شعبان وأقوال العلماء فيها قال الحافظ ابن رجب في كتابه النفيس " لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف": جاء في الحديث، إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» خرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه.
وخرج ابن ماجه من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك أو مشاحن».
وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن، وقاتل نفس». وخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث معاذ مرفوعا.
ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا: «إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه، إلا زانية بفرجها أو مشركا». وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف.
وجاء عنه ﷺ أنه قال: هذه ليلة النصف من شعبان إن الله عز وجل يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم. رواه البيهقي من طريق العلاء بن الحارث عنها وقال هذا مرسل جيد يعني أن العلاء لم يسمع من عائشة والله سبحانه أعلم.
وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا يومها فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول ألا من مستغفر فأغفر له ألا من مسترزق فأرزقه ألا من مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر رواه ابن ماجه.
وقال أبو العباس البوصيري: هذا إسناد فيه ابن أبي سبرة واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة قال أحمد وابن معين يضع الحديث.
ويروى عن نوف البكالي أن عليا رضي الله عنه خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها، ينظر إلى السماء، فقال: إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه الساعة فنظر إلى السماء، فقال: إن هذه الساعة ما دعا الله أحد إلا أجابه، ولا استغفره أحد في هذه الليلة إلا غفر له، ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا..
وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام – كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم – يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك؛ فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها؛ منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم. وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز؛ منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كله بدعة.
قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الطاعن على أمته، السافك دماءهم. وهذه الشحناء -أعني شحناء البدعة- توجب الطعن على جماعة المسلمين
ثانيا: حكم صيام النصف من شعبان الحديث عن صيام منتصف شعبان وإحياء ليلته حديث ذو شجون بين أهل العلم قديما وحديثا فمن منكر ومن مجيز، ومرد ذلك كله إلى تجاذب النظر بين الآثار المروية صحة وضعفا من جهة، وبين دراية ودلالة من جهة أخرى، وقد انتهى تحقيق الإمام ابن رجب في هذا المجلس إلى الأمور الآتية: القول في حديث "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" رواية ودلالة.
أما من حيث الرواية: وإنه حديث منكر، وبه قال أكبر أئمة المحدثين، منهم الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم. ب – وأما من حيث دلالته والعمل به:
قال الطحاوي: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به، وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به. وقد أخذ آخرون منهم الشافعي وأصحابه، ونهو عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة. ثم اختلفوا في علة النهي: فمنهم من قال: خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه، وهذا بعيد جدا فيما بعد النصف، وإنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين. ومنهم من قال: النهي للتقوي على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان، ويرد هذا صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله أو أكثره ووصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان. – وصيام يوم النصف من شعبان فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر> قال الشيخ فضل مراد: "… ومن هذا صوم النصف من شعبان من غير الجزم بسنيتها للنبي صلى الله عليه وسلم وأنت ترى أن المسألة ليس فيها نص يحرم على وجه الخصوص ولا ينهى ولا يأمر على وجه الخصوص ولا يندب، فدخلت في عموم العمل الصالح وعموم فضل الصوم خاصة. وقد وردت فيها سبعة أحاديث لا يخلو أي منها من تضعيف؛ وهو ما جعل البعض يحسنها باعتبار المجموع".
ثالثا: صفة إحياء ليلة النصف من شعبان لمن قال بذلك من العلماء قال الإمام ابن رجب رحمه الله: واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها بخاصة نفسه، وهذا قول الأزواعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.
فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا
رابعا: الأعمال التي تستحب والأعمال التي تكره أو تحرم في ليلة النصف ويتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة. وقد روي أنها: الشرك، وقتل النفس، والزنا؛ وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله، كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته، «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية [الفرقان: 68]» ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضا: الشحناء، وهي حقد المسلم على أخيه بغضا له؛ لهوى نفسه، وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة؛ كما في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:
«تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا».
وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا. وعن الأوزاعي أنه قال: المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة.
وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، الطاعن على أمته، السافك دماءهم. وهذه الشحناء – أعني شحناء البدعة – توجب الطعن على جماعة المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.
فأفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم؛ ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المؤمنين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون:{ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم} [الحشر: 10].
روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4]. أنها ليلة النصف من شعبان. والجمهور على أنها ليلة القدر، وهو الصحيح
قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور، وسخاوة النفوس، والنصيحة للأمة؛ وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة.
ويجدر التنبيه، أنه لا يوجد في ليلة النصف من شعبان صلاة تسمى صلاة البراءة، وبعضهم يسميها صلاة الألفية الألفية، لأنهم يقرؤون فيها سور الإخلاص ألف مرة في مائة ركعة، وهي صلاة مخترعة بكيفية مخترعة لم يأذن بها الله، ولم يرشدنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ابتدعها قوم، ورووا في ذلك حديث مكذوب، واستحسنها بعض الجهال، ممن لا يعرفون السنن، ويقبلون على البدع.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي ثنتى عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن اسمعيل المقدسي كتابا نفيسا في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد رحمه الله.
وسئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: هل تجوز صلاة الرغائب والبراءة جماعة أم لا؟
فأجاب بقوله: أما صلاة الرغائب فإنها كالصلاة المعروفة ليلة النصف من شعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان وحديثهما موضوع فيكره فعلهما فرادى وجماعة وأما صلاة البراءة فإن أريد بها ما ينقل عن كثير من أهل اليمن من صلاة المكتوبات الخمس بعد آخر جمعة في رمضان معتقدين أنها تكفر ما وقع في جملة السنة من التهاون في صلاتها فهي محرمة شديدة التحريم يجب منعهم منها لأمور منها أنه تحرم إعادة الصلاة بعد خروج وقتها ولو في جماعة وكذا في وقتها بلا جماعة ولا سبب يقتضي ذلك ومنها أن ذلك صار سببا لتهاون العامة في أداء الفرائض لاعتقادهم أن فعلها على تلك الكيفية يكفر عنهم ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال البهوتي الحنبلي: (وأما صلاة الرغائب، والصلاة الألفية ليلة نصف شعبان، فبدعة لا أصل لهما، قاله الشيخ. وقال: وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة.
من قال بأن الليلة التي تكتب فيها الآجال وتقسم فيها الأرزاق، ليس لديه دليل على ذلك، وأن القرآن يؤكد أن ليلة القدر التي نزل فيها القرآن هي الليلة التي تكتب فيها الآجال، وتقسم فيها الأرزاق، ومن قال أنها ليلة النصف من شعبان فهو غالط، والحق في خلاف قوله
خامسا: هل ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم؟ روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4]. أنها ليلة النصف من شعبان. والجمهور على أنها ليلة القدر، وهو الصحيح.
وقال بعضهم لفرط تعظيمه لليلة النصف من شعبان: إنها الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن، وأنها يفرق فيها كل أمر حكيم، وجعل ذلك تفسيرا لقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} {فيها يفرق كل أمر حكيم} وهذا من الخطأ البين، ومن تحريف القرآن عن مواضعه، فإن المراد بالليلة المباركة في الآية ليلة القدر، لقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} وليلة القدر في شهر رمضان للأحاديث الواردة في ذلك؛ لقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} .
مما سبق من أقوال العلماء نعلم أن من قال بأن الليلة التي تكتب فيها الآجال وتقسم فيها الأرزاق، ليس لديه دليل على ذلك، وأن القرآن يؤكد أن ليلة القدر التي نزل فيها القرآن هي الليلة التي تكتب فيها الآجال، وتقسم فيها الأرزاق، ومن قال أنها ليلة النصف من شعبان فهو غالط، والحق في خلاف قوله.