سبع سنوات، أفكاره، ونهجه، ومصطلح "المسافة صفر” الذي تحدث عنه بإعجاب شديد في إحدى جولاته السياسية / الثورية، بالفيديو، صوتا وصورة، مع عشرات الشباب والصبايا في إحدى رحلات الاستكشاف، والدراسة المعرفية / الميدانية لحركة الفدائيين، و ” المطاردين ” من جيش الاحتلال / الانتداب البريطاني، ولطبوغرافيا الأرض الفلسطينية، جبالا، وديانا، وكهوفا. في هذه الجولات كان الباسل، باحثاً في أحوال الناس وتاريخهم الشفوي، ومنقباً في الأرض عن كل ما من شأنه أن يربط تاريخ شعبه بوطنه. لهذا، استرسل الباسل في الشرح عن العملية الفدائية النوعية، المشهورة باسم ” زقاق الموت ” يوم 15 / 11 / 2002 التي نفّذها ثلاثة فدائيين هم ” ذياب المحتسب، وأكرم الهنيني، وولاء سرور” قرب مستعمرة كريات أربع في الخليل. في متابعاته وقراءته لتفاصيل العملية التي استمرت خمس ساعات، تعرف الباسل، الشاب ابن الثامنة عشرة من عمره، على معنى "المسافة صفر” التي أصبحت التطبيق الميداني والبطولي لعمليات الفدائيين في الكتائب والسرايا في قطاع غزة منذ فجر يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 المجيد.
تأتي الذكرى السابعة لارتقاء الباسل شهيدا هذا العام، وفلسطين، وقي القلب منها غزة – وبدرجة أقل الضفة المحتلة _ تتعرّ ض لحرب إبادة، أكثر من فاشية، في محاولة لاقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، قتلا أو تهجيرا، في محاولة جبهة الأعداء التي يقودها البيت الأبيض وتوابعه من المستعمرين الأوربيين القدامى لوطننا العربي، مع دعم وشراكة من بعض دول الإقليم وبعض حكومات ” ذوي القربى ” لتصفية المقاومة والقضية، وتوسيع المستعمرات وإحلال قطعان المستوطنين في تمدد جديد على الأرض الفلسطينية.
المناضل السياسي في الميادين
لم يكن «الباسل» اسماً مجهولاً عند المحتل، أو عند أجهزة سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود، أو قوى الحراك الشبابي، أو كوادر وأعضاء القوى والهيئات الوطنية. كان ناشطاً سياسياً وجماهيرياً معروفاً لدى الجميع، لكنّه كان متفرّداً بين رفاقه وزملائه، من خلال ثقافته النظرية التي لم تبقَ في العقل، بل عمل على نقلها إلى أرض الواقع، كأداة للتحليل والاستنتاج، وبهذا حقق المزج الكامل ما بين المعرفة والممارسة.
قاوم مع رفيقاته ورفاقه كل إفرازات ” اتفاق أوسلو "على الأرض، في محاولة لتشكيل رفض مجتمعي لهذا النهج الكارثي. وقاد مع مجموعة من الشباب في عام 2012 مظاهرات الرفض لدعوة مجرم الحرب «موفاز» لزيارة رام الله، واستطاعوا، بصلابة إرادتهم واتساع التضامن الشعبي معهم، منع القاتل من القدوم، بعد أن تعرضوا للضرب والسحل على يد أجهزة أمن السلطة.
أعادت تلك الأجهزة في آذار/ مارس، وأوائل نيسان / ابريل 2016 اعتقال الباسل ورفاقه الخمسة على دفعتين تحت دعاوى ” التحضير والتخطيط لتنفيذ عملية مسلحة ضد العدو المحتل”. وقد تعرض الجميع للتعذيب الوحشي خلال الأشهر الخمسة التي أمضوها بالاعتقال، مما اضطر قيادة السجن لطلب العلاج الطبي لباسل عدة مرات أثناء الأسابيع الأولى من التحقيق القاسي، الذي أدى لتوقف قلب الباسل عن النبض أكثر من مرة – كما تحدثت والدة الشهيد بالصوت والصورة في فيديو متداول عن وضع الباسل في سجون السلطة -. لكن الصلابة والتحدي قادا الجميع لإعلان الإضراب عن الطعام، ما اضطر قيادة سلطة الحكم الذاتي لإطلاق سراحهم، استجابةً لحملات شعبية واسعة، ولعدم ثبوت التهمة الموجهة لهم. بعد إطلاق سراحه، توارى الباسل عن الأنظار، بعد أن اعتقل العدو المحتل رفاقه، وظل مطاردا لستة أشهر تنقل خلالها متخفياً تحت اسم مستعار من مكان لآخر، في نشاط دؤوب لتعميم أسلوب ونهج المقاومة، بالفكرة والممارسة.
المثقف المشتبك، شهيدا
لهذا، فإن الاحتفاء بهذه الذكرى تتطلّب إعادة تسليط الضوء، باختصار سريع، على ما حصل في ذلك الفجر الدامي في 6 آذار / مارس 2017. يومها، بادر مُطارَد فلسطيني إلى إطلاق النار على عناصر وحدة ” يمام ” الخاصة في جيش الاحتلال، التي طوّقت المكان الذي يختفي فيه في مدينة البيرة في الضفة الفلسطينية المحتلة، بهدف اعتقال أو إعدام باسل الأعرج. قاوم المطارد منذ عدة أشهر، المتحصّن في سقيفة الشقّة السكنية، التي كان قد استأجرها وأقام فيها. ساعتان من الزمن، خاض فيهما المناضل ” المطلوب، حيا أو ميتا ” مواجهة عنيفة مع الغُزاة، بإرادة واعية، وصلبة لم تنكسر، وببندقية أفرغ كل رصاصها ليرتقي بعدها شهيداً. سقط الجسد مضرّجاً بدمائه نتيجة 22 طلقة وشظية اخترقته. هوى الجسد النحيل في بركة الدم، بجوار الكتب والأوراق والكوفية، لكن اليد القابضة على السلاح لم ترفع الراية البيضاء، ولم تستسلم. وهذا ما أكده شقيقه حين نعاه: ” لم تُسَلّم لهم، ومثلك لا يعرف التسليم. اخترت أن تكون مقاوماً وأن تموت شهيداً مقبلاً مشتبكاً لا خانعاً ".
الوصية / الأمانة
في الوصية التي وُجدت في الشقة التي استشهد فيها، بدأ الباسل تحيته الوداعية بثلاث كلمات ” تحية العروبة والوطن والتحرير”، لَخّصت الانتماء القومي والوطني، وأضاءت على خيارات المقاوم المشبك، مضيفا ” أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟”. أما عن استشراف المستقبل، فقد خاطب من يقرأ وصيته من أبناء شعبه بعبارات غير ملتبسة، وكأنه يتنبأ بحال كتلة وازنة من الأمة وهي تعيش منذ خمسة أشهر أحداث وارتدادات معركة ” طوفان الأقصى ” البطولية، ” كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة، إلا أنَّ ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم. أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله ".
باسل:
السنوات السبع التي مرت بعد غياب جسدك عنّا، لم تكن عجافا، كانت متوهجة بنيران الاشتباك مع الغزاة المحتلين. لهذا، لم نفتقدك أبدا، كنت حاضرا في كل مواجهة مسلحة مع جيش المستعمرين القتلة، في الضفة والقدس، والمحتل من وطننا عام 1948، وفي غزة البطولة والعزة والكرامة.
باسل:
في الصواريخ التي يطلقها أبطال المقاومة من غزة باتجاه مستعمرات المحتلين ومعسكرات جيشهم، كان اسمك مكتوبا على عدد منها ” الباسل لم يضل الطريق ” في تأكيد متجدد على الوفاء لك، لمبادئك، ونهجك.
باسل … سلام لك، وسلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت، وكل يوم وأنت تُبعث فينا، في الشعب والأمة.