هذه قصة واقعية ولا بأس من ذكرها لأن صاحب القصة انتقل إلى جوار ربه قبل سنة، وتتلخص حتى لا أطيل عليكم في أن لي زميلاً من خارج المحافظة تعرفت عليه قبل (٢٥) سنة في أول أيام دراستي الجامعية، وكان ميسور الحال يصرف الكثير من النقود ، ولا يأكل إلا الوجبات الغالية في كفتيريا الجامعة و المطاعم ، حيث كان يتباهى بمصروفه الوفير أمامنا ، وكنت في الجامعة أتجنبه حتى لا يدعونني للطعام في المطعم فأعجز أن أرد له الدعوة لأنني لم يسبق لي أن دخلت مطعما ولا حتى كفتيريا الجامعة بسبب مصروفي القليل جداً ، حيث كان والده صاحب بقالة وأخوته الموظفون يغدقونه بالمال فيعيش في بحبوحة ؛ لأنه الوحيد المتعلم بين أشقائه وهو أصغر الأبناء سناً لذلك كانوا يدللونه .
بعدما تخرج من الجامعة تزوج مباشرة بعد تعيينه وبعدها بسنة توفيت والدته بعدما أصرت وهو في الجامعة على تسجيل البيت الذي تسكنه مع زوجها باسم إبنها الصغير بموافقة الأبناء الكبار حتى يكون قريباً منهما للإهتمام بهما في شيخوختهما في المستقبل ، هكذا فهمت لاحقا من الأصدقاء، حيث أصبح الأبناء والبنات يترددون على والدهم بين الفينة والأخرى بعد وفاة والدتهم لوجودهم بعيدين عن مكان سكن والدهم بسبب العمل والسكن .
كان صديقي الابن الصغير يسكن في بيت مستأجر مجاور لبيت والده ،حيث بقي والده الطاعن بالسن وحيداً في بيته بدون زواج بسبب كبر سنه ولأنه وفيٌ لزوجته بعد وفاتها ، حيث أصبح الوالد يمضي وقته بين البقالة والبيت والمسجد وبقي على هذه الحال لفترة وجيزة ، حيث أصيب بجلطة دماغية اجلسته في البيت وافقدته الحركة ، واغلقت البقالة بعد مرض الوالد، وبدأ الأبناء الذين يسكنون بعيدين عن الوالد يترددون على والدهم بين الحينة والأخرى مع زوجاتهم لمدة سنة كاملة ، يضطرون لترك عملهم مع زوجاتهم عند ذهابهم إلى أبيهم ويمضون (٣) ليال متواصلة وهكذا بالتناوب .
كان لي سابقا اتصال معه على المناسبات والأعياد بالهاتف ، حيث كنت وقتها أنصح صديقي بترك بيته المستأجر والسكن مع والده المقعد لأنه قريبٌ منه مغاير لاخوته الباقين الذين يسكنون بعيداً ، ولكون بيت الوالد مسجلاً أصلاً في إسم صديقي من أيام الجامعة ، وكون والده ما قصر معه في الدراسة من حيث المصروف ولأن والديه فضلوه على الأبناء من البنات والذكور وسجلوا البيت في أسمه ، وكان يرد عليَّ بلهجة غير مقبولة قائلاً : بنت الناس غير مجبورة في رعاية والدي يا يوسف، لمجرد أن أسكن مع والدي سوف اتحمل مسؤوليته لوحدي من رعاية و سوف يتخلى اشقائي عن مسؤوليتهم تجاهه والدي يحتاج لرعاية وتنظيف الحل الوحيد يا يوسف أن نستقدم له خادمة لرعايته ونتكفل نحن الأبناء جميعاً بتكاليف رعايته وأجرة الخادمة" فأرد عليه قائلاً : يا صديقي والله أعلم هذا ابتلاء لك من رب العالمين ربما والدك لن يعيش طويلاً اكسبها يا صديقي واعتني فيه في المستقبل ربنا برزقك وبتتورث البقالة كمان " .
واضيف له قائلا :" و لماذا تتحدث عن اشقائك الذين لم يقصروا معك هكذا، اشقاؤك عيال حلال لو كانوا كما تقول لما ساعدوك في الجامعة وتكاليف الزواج وسمحوا لوالدك بتسجيل البيت بإسمك والله أنهم رجال ، وأين ذهب فضل والدك الذي كان يغدقك بالمال في دراستك وساعدك في زواجك وسجل البيت بإسمك ألا يستحق أن تعيش معه " ؟!
فيرد قائلاً :" لو سمحت لا تتدخل في أمورنا الخاصة، أنا لم أطلب منه تسجيل البيت بأسمي، هذه رغبة والدتي بعد موافقة إخواني وأخواتي" ، فارد عليه غاضباً : أنت ناكر للمعروف أنا يا صديقي أُمجد والدتي - رحمها الله- ليلا ونهارا واتصدق عنها واذبح لها الأضحية بعض الأحيان وأنا فقير الحال لأنها صرفت عليَّ بالجامعة بمصروف (٥ ) دنانير وكنت أعيش حياه قاسية في بيت مهجور ومع ذلك لا أنسى فضل والدتي عليَّ بعد الله تعالى وأنت الآن ياصديقي تنكر فضل والدك واخوتك الذين كان يغدقونك بالمال وسمحوا لوالدك بتسجيل البيت الوحيد بإسمك أنت إنسان لا تقدر النعمة ولا المعروف، بدك تجيب خدامة لوالدك وأنت موجود بجواره شو بدهم يحكو عليكم الجيران لو كانت والدتك محل والدك مقبولة نوعا ما تجيب خدامة مع أنني ما برضاها لو كانت والدتي يا آسفاه يا صديقي" .
فيرد صديقي غاضباً :" الزم حدودك يا فجعان و أقلب وجهك ولا عمرك تتدخل في شيء لا يعنيك!!! أقلب وجهك، يا مصدي!! عامل حالك شيخ!! وأنت ما بتسوى تعريفة لولا شهادتك الجامعية يا يوسف ما كان عبرتك أصلا !! لو في كتاباتك وتقاريرك خير لشفناك يا مصدي على أحد الفضائيات عامل حالك صحفي وأنت مبهدل ما عمرك طلعت من بيتك بتخاف تسافر من محافظة لأخرى أصلا أنا سألت عنك ياصديقي أنت واحد مبهدل الكل ببهدلك على كل ما تكتبه، ما لك مكانة لو فيك خير ما رماك الطير " بعدها أغلق الهاتف في وجهي، حيث انقطعت العلاقة بيننا لسنوات طويلة ، علمت بعدها من أصدقاء ومقربين ، أن الوالد رحل عند إبنه الكبير لرعايته وسكن الإبن الصغير في بيت والده المسجل في أسمه بعدما اتفق مع اشقائه على رحيله عند إبنه الكبير و ما لبث الوالد إلا (٥) أشهر حيث توفاه الله .
وقبل سنة توفي صديقي بسبب إصابته بجلطة في القلب وزوجته بمرض نفسي تأثرا على وفاته ، حيث لم ينجبا الأطفال حتى بعد زواجهما لسنوات .وقتها تذكرت قوله تعالى :" ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا ﴾