فقدان الأب ليس مجرد حدث يمر، بل هو تجربة تعصف بالروح وتترك ندوبا لا تلتئم. الأب، ذلك الجدار الذي نستند إليه في لحظات الضعف، ذلك الصوت الذي يطمئننا في أوقات الخوف، يصبح فجأة ذكرى بعيدة، وصمتا يتردد في أرجاء القلب. يشعر الإنسان وكأن شيئا ما قد انكسر بداخله، شيء كان يعتمد عليه لبناء معالم حياته، شيء كان يظنه أبديا، لكنه اكتشف فجأة هشاشته.
عندما نفقد الأب، نفقد جزءا من أنفسنا، نفقد الحكمة التي كانت توجهنا، والعطف الذي كان يحمينا، والأمان الذي كنا نجد فيه ملجأنا من قسوة العالم. نشعر وكأن الأرض قد فقدت توازنها، وكأن السماء قد انحنت قليلا لتحتضن حزننا الذي لا ينتهي. يتحول البيت إلى مكان غريب، صامت، مليء بالذكريات التي تعصف بالقلوب كلما حاولنا المضي قدمًا.
كلما مر يوم، يزداد الألم، لا يخف كما يظن البعض. يصبح أشد حضورا، كأن فقدان الأب ليس حدثا وقع مرة واحدة وانتهى، بل هو تجربة نعيشها يوميا. في كل لحظة نحتاج فيها إلى نصيحته، في كل مشكلة نبحث فيها عن توجيهه، في كل فرحة نريد أن نشاركه إياها، نجد أن حضوره غائب، وحضوره كان هو الحياة نفسها.
ويزداد هذا الألم حين نتذكر الضحكة التي كان يملأ بها أركان البيت، وتلك القصص التي كان يرويها لنا ونحن نحتضن طفولتنا في أمانه. كان حضوره طاغيا، ليس بالصوت فقط، بل بروح تحمل عبء الدنيا لتخفف عنا وطأتها. كان يقف كالشجرة، نستظل بظلها ونستقي من جذرها، ولم نكن نعرف أن تلك الشجرة كانت تتعب، كانت تتألم، كانت تواجه الرياح والعواصف لتظل شامخة من أجلنا.
ويأتي الليل، اذ يسود الصمت، ونجد أنفسنا وجها لوجه مع الفراغ الكبير الذي تركه. نجلس بمفردنا، نحاول أن نملأ ذلك الفراغ بالذكريات، بالضحكات بالدموع التي لا تهدأ. نكتب له رسائل لا تصل، نحادثه في خيالنا كما لو كان لا يزال معنا، نتخيل صوته وهو يجيبنا بنبرة دافئة ومليئة بالحكمة. لكن الحقيقة مهما حاولنا تجاهلها، تبقى عارية: هو لم يعد هنا.
وتظل الحياة تمضي، والناس يظنون أن الزمن كفيل بالشفاء، لكننا نعرف الحقيقة. نعرف أن هذا الجرح سيظل مفتوحا، سيظل ينزف في كل لحظة نشتاق فيها في كل موقف نحتاج فيه إلى يده القوية لترفعنا من جديد. نعرف أن الأب، وإن رحل، يظل حاضرا في كل شيء حولنا في وجوهنا التي تشبهه في عاداتنا التي ورثناها عنه، في كلماتنا التي نطق بها ذات يوم.
فقدان الأب ليس مجرد فقدان لشخص، بل فقدان لجانب من جوانب الحياة نفسها. هو فقدان للثقة التي كنا نستمدها من وجوده، للأمان الذي كنا نشعر به في قربه هو فقدان لصديق كان يعرف كيف يسمع دون أن يحكم وكيف ينصح دون أن يجرح وكيف يحب دون قيد أو شرط.
ونتعلم في النهاية، ان الألم لن يزول، لكنه سيصبح جزءًا منا، جزءا من قصتنا ومن هويتنا ومن قوتنا. سنحمل هذا الألم كعلامة كذكرى كجزء لا يتجزأ الحياة. سنظل نشتاق ونبحث عن أثره في حياتنا، سنظل نحكي عنه كما لو كان لا يزال هنا، لأنه بالفعل لا يزال هنا في قلوبنا في أرواحنا في كل ما نحن عليه.
كن مدرك ان القوة التي نكتسبها من الأب بعد رحيله هي أن نكمل الطريق بنفس الثبات والعزم الذي علمنا إياه وأن نحمل روحه في قلوبنا كدافع لنستمر ونقف صامدين أمام كل عواصف الحياة.