يقول البعض إنّ الأردن تشكّل نتيجةً لمعاهدات واتفاقيات سياسية، ولم يكن له أثر في التاريخ، وأنّه كان صحراء قاحلة بلا حياة، لكن الواقع والحقيقة عكس ذلك كليّاً، فالأردن موجود بحدوده الحالية منذ ما قبل الميلاد.
الأدلّة التاريخية على وجود الأردن
أولاً: الأردن في المصادر الإسلامية والتاريخ الإسلامي
1. ذكره في حديث النبي ﷺ:
قال رسول الله ﷺ: (حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً) [رواه الترمذي].
يُشير هذا الحديث إلى أهمية عمّان البلقاء في الجغرافيا الإسلامية، ووجودها كمدينة منذ عهد النبي ﷺ.
2. وصف أبو جهل للأردن بأنّه كالجنة:
جاء في حديث عن أبي جهل بن هشام، وهو يخاطب قريش بشأن دعوة النبي محمد ﷺ: (إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره، كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بُعثتم من بعد موتكم، فجُعلت لكم جنان كجنان الأردن...).
وهذا يدلّ على أنّ الأردن كانت معروفة بخصوبتها وجمالها في ذلك الزمن.
3. مشاركة أهل الأردن في الأحداث الإسلامية:
خلال معركة مرج راهط بين مروان بن الحكم والضحّاك بن قيس، أشار الشاعر عدي بن الرقاع العاملي إلى دور الأردنيين في القتال بقوله:
"لولا الإله وأهلُ الأردنّ اقتسمت
نارُ الجماعة يومَ المرجِ نيرانا"
ثانياً: الممالك التي ساهمت في تشكيل حدود الأردن
1. مملكة موآب (850 ق.م):
امتدّت من شمال الكرك إلى الشوبك بمحاذاة البحر الميت.
من أشهر ملوكها ميشع المؤابي، الذي وثّق انتصاراته في نقش ميشع، متحدثاً عن صراعه مع مملكة إسرائيل.
ذُكرت مملكة موآب في العهد القديم، وكانت على أراضي الأردن الحالية، في صراع دائم مع جيرانها.
2. مملكة عمّون (القرن 12 ق.م):
امتدّت شرق الأردن، واتخذت عمّان (عاصمة الأردن حالياً) مقراً لها.
ورد ذكرها في العهد القديم والسجلات الآشورية، وتُعدّ من الممالك التي نشأت على الأراضي الأردنية.
3. مملكة أدوم (العصر البرونزي – الحديدي):
تقع شرق نهر الأردن، وتمتدّ حتى خليج العقبة.
ذُكرت في المصادر التاريخية الفرعونية وبلاد الرافدين، كما أُشير إليها باسم إدوميا في المصادر الإغريقية.
4. مملكة الأنباط (القرن الرابع ق.م – 106 م):
عاصمتها البتراء، وهي من أعظم المدن التاريخية في الأردن.
اشتهر الأنباط بمهارتهم في الزراعة، التجارة، ونحت الصخر، ولا تزال آثارهم شاهدةً على حضارتهم المتقدّمة.
امتدت حدودهم لتشمل أجزاء واسعة من الأردن، ووصل نفوذهم إلى شمال الجزيرة العربية وسوريا.
ثالثاً: الأردن في العهد القديم
سفر العدد 34:12: (وينحدر التخم على الأردن، ويكون مخارجه عند بحر الملح. هذه تكون لكم الأرض بحدودها من كل جهة.)
ويُعدّ هذا استشهاداً تاريخياً بنصوص العهد القديم، وليس استدلالاً دينياً.
رابعاً: الأردن في الحروب الصليبية
في زمن الحروب الصليبية، كان للأردن دور استراتيجي مهمّ بسبب موقعه الجغرافي كجسر بين بلاد الشام، مصر، والجزيرة العربية.
1. القلاع الصليبية والإسلامية:
بنى الصليبيون العديد من القلاع في الأردن، مثل قلعة الشوبك (مونتريال) وقلعة الكرك، لاستخدامها كنقاط تحكّم في الطرق التجارية والعسكرية.
بالمقابل، استعاد صلاح الدين الأيوبي هذه القلاع بعد معارك عنيفة، خاصةً خلال حملته ضدّ مملكة بيت المقدس.
2. معركة حطّين وتأثيرها على الأردن:
بعد معركة حطّين (1187م)، بدأ صلاح الدين بتحرير المناطق المحتلّة، وكان للأردن دور رئيسي في استعادة السيطرة على الطريق بين دمشق والقدس.
قلعة الكرك كانت من آخر معاقل الصليبيين في المنطقة، وسقطت بعد حصار طويل.
3. طرق التجارة والحج:
كان الأردن ممراً أساسياً للحملات الصليبية القادمة من أوروبا إلى فلسطين.
كما استخدمه المسلمون لحماية قوافل الحجاج، وتأمين الطرق بين الشام والحجاز
خامساً: ذكر اسم الأردن في كتب التاريخ
1. ابن الأثير (1160-1233م) – "الكامل في التاريخ":
أشار إلى منطقة "أردن" كموقع بين الشام والحجاز، وذكر معارك فيها بين المسلمين والصليبيين.
2. المؤرّخ الصليبي وليم الصوري (William of Tyre) – القرن 12م:
ذكر وجود منطقة تُسمّى "Oultrejourdain" وتعني "ما وراء الأردن"، وكانت جزءاً من مملكة بيت المقدس الصليبية.
شملت هذه المنطقة الكرك والشوبك، وكان يُطلق عليها أحياناً اسم "إمارة الأردن الصليبية" (Lordship of Oultrejourdain).
3. الإدريسي (1154م) – "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق":
أشار إلى "أرض الأردن" كجزء من الشام، ووصف مدنها مثل الكرك والشوبك، مؤكّداً أنّها كانت منطقة مأهولة ومهمة استراتيجياً.
4. المقريزي (1364-1442م) – "السلوك لمعرفة دول الملوك":
تحدّث عن "الكرك بالأردن" كمنطقة مهمّة خلال الحروب الصليبية، وذكرها ضمن المناطق التي استعادها المسلمون.
إنّ الادّعاء بأنّ الأردن لم يكن له وجود تاريخي يتجاهل حقيقةً واضحة تدعمها الأدلة الأثرية والنصوص التاريخية. فمنذ ممالك موآب، عمّون، وأدوم، مروراً بحضارة الأنباط المزدهرة، وصولاً إلى دوره المحوري في الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية، ظلّ الأردن نقطة ارتكاز حضارية واستراتيجية.
وما تزال آثاره وتراثه شاهدةً على حضوره العميق في التاريخ الإنساني، مما يجعل الأردن دولةً تمتدّ جذورها إلى أعماق الزمن، وليس كياناً مستحدثاً بفعل معاهدات سياسية.