تلك المبدعة التي التقيتُ بها في رحاب المكتبة الوطنية، فكان اللقاء لحظة فارقة، لا تتكرّر كل يوم، لحظة تُشبه انفتاح شرفةٍ على أفقٍ جديد. فاطمة، ابنةُ العزم، من ذوي الهمم، كفيفةُ البصر، لكنها تُبصر بنور العقل، وتتحرّك بدفء البصيرة، وتحمل في أعماقها قوةً تكسر العتمة وتشقّ طريقها بثباتٍ لا يعرف الانحناء.
جلستُ معها، وما إن بدأنا الحديث حتى قالت بصوتٍ يشبه وقار من تعوّد مواجهة الحياة بثقة: "أحمل شهادة البكالوريوس في اللغة العربية، وكنت من أوائل الثانوية العامة بمعدّل 95%.” وحين تحدّثت بصوتها الإعلامي العذب، أدركتُ أن الجمال ليس في العين فحسب، إنما في النبرة التي تحمل المعنى، وفي الروح التي تعرف كيف تُطلق الكلمة من موضعها الصحيح. كان صوتها يشي بفكرٍ ناضج، وبحضورٍ يأسر السامع قبل أن يكتمل حوارٌ أو تتّضح جملة.
فاطمة لم ترَ تحدياتها عائقًا، جعلت منها سلّمًا تترقّى به نحو المجد. لا تبحث عن شفقة، ولا تقف عند حدود الظروف، إنما تتقدّم بخطوات ثابتة بحثًا عن وظيفة تليق بقدراتها، وتفتح أمامها أبواب الدراسات العليا، لتُكمل مسيرتها حتى الماجستير فالدكتوراه. أحلامها عالية، تشبه قممًا لا يصلها إلا من تزوّد بالإصرار، ومن امتلك شغفًا يقاوم كلّ ريح. هي تطمح إلى عملٍ يُبرز كفاءتها في اللغة، ويُظهر موهبتها الإعلامية، ويمنحها فرصةً لتكون سندًا لأسرتها وتحقيقًا لذاتها.
وحين تتحدث، لا يملك السامع إلا أن يُصغي. كلماتها ترتّب نفسها بوقار، وحروفها تنساب كأنها قصيدة تمشي على قدمين؛ كل جملة منها دهشة، وكل فكرة بصمة لا تُمحى.
ولمّا طال الحوار بيننا، شعرتُ أنّ المطر يهطل من لغتها؛ مطرٌ من المعاني، ومن الصبر، ومن الإدراك العميق لمعنى أن تحمل رسالتك رغم كل ما يلوّن الطريق من عثرات. كانت تنقّلها بين المفاهيم يشبه تنقّل العصافير بين الأغصان؛ خفةٌ، ودقّة، وجمال.
ثم قالت بصوتٍ يمزج الهيبة بالمحبّة: "قدوتي طه حسين، عميد الأدب العربي.” تشبهه في العمق، في صلابة الفكر، وفي الوفاء للكلمة. حدّثتني عن شجاعته الفكرية، عن خروجه من قيد الظلام إلى فسحة النور، عن دراسته في السوربون، وعن ثورته على التقليد، وعن قدرته على إعادة تشكيل وعي جيل كامل.
كانت تستحضر نصوصه، ومواقفه، وتحليلاته للشعر الجاهلي، كأن بينها وبينه صلة لا تُرى، لكنها راسخة كالدم في العروق. إن أثر طه حسين في شخصية فاطمة ليس مجرد إعجابٍ بكاتب كبير، إنما هو امتداد روحي وفكري. لقد ورثت عنه القدرة على مساءلة المألوف، وعلى تهذيب اللغة حتى تصير مرآةً للعقل، وعلى بناء خطاب يقوم على منطقٍ متين ورؤيةٍ نافذة. تشربت من تجربته معنى أن يكون الإنسان أكبر من ظرفه، وأقوى من كل ما يُراد له أن يحدّ من طريقه.
وكما شقّ طه حسين دربًا وعرًا نحو النور، تسير فاطمة اليوم في خطٍّ موازٍ؛ تُعبّر عن جيلٍ جديد بلغةٍ أصيلة، تستمدّ جذورها من التراث، وتحلّق بذوقٍ حديثٍ في فضاءات الفكر. تلتقي معه عند مفترقات الحرية الفكرية، وتفترق عنه لتصنع ذاتها الخاصة، فلا تكون ظلًّا، إنما امتدادًا ناضجًا لروح المعرفة.
وهكذا، تُصبح فاطمة الحكاية التي لا تشبه إلا نفسها؛ حكايةٌ يلتقي فيها الماضي بالحاضر، ويشتبك فيها نور طه حسين مع نورها الداخلي، فيثمران وعيًا يزهر على دروب المستقبل.