بين ممتهني السياسة ورجال الدولة مساحات فهم ومسافات وفاء، وما بين البراغماتية المصلحية القائمة على انتهاز اللحظة، واقتناص الفرص دون أدنى اعتبار للأوجاع الوطنية والمصالح العليا للدولة من جهة و الانحياز الكامل للتراب والهوية، ونكران الذات والمروءة في تقدير الأولويات الوطنية من جهة أخرى؛ هي ثقافة ارتبطت إلى حدٍ كبير بثقافة انهيار منظومة القيم الوطنية، وتغيّر معايير التعاطي في الشأن العام وتبدلها ثمَّ انزلاقها لمستويات خطرة في تقييم مستوى الأخطار الوطنية.
الساسة لا يقولون الحقيقة في الغالب، ويتقنون القفز بين الحقيقة والوهم، ويتفننون الحديث في المبادئ والثوابت الوطنية نهاراً، والمصالح المؤذية أحياناً وإقصاء المخلصين وتلميع الهواة وأصحاب الألسنة العرجاء في أفقها السياسي في الغرف المغلقة ليلاً، أو من وراء حجاب.
السياسي النفعي لا يتورع عن قتل كل ما هو جميل أو مفيد للوطن من أجل الظفر بمصلحة آنية ضيقة هنا او صغيرة هناك، ولكنه في كل الأحوال يرى في رجل الدولة قامة وقيمة يتمناها ولكنه لا يستطيع مجاراتها أو الولوج إليها.
رجال الدولة لا يحقدون على الوطن ولا يستبقون التعديل بالاستقالة، ولا يقفزون من قطار المسيرة التي قبلوا أن يكونوا شركاء فيها، والأهم لا يثقبون سفينة الوطن بالإشاعة، والتحريض، والإساءة للأشخاص والهيئات تحت مسميات الصراحة والجرأة، فأقلام الحق مشرعة وساحات النقد الإيجابي متاحة دون استهداف او وقيعة،
ورجال الدولة يرون أن الوطن أكبر من المواقع والمناصب، ويتجاوزون النغائص، ويقفزون عن رواسب الخذلان؛ كي يبقوا شامخين في نظر الصادقين ومحترمين أمام أنفسهم وأولادهم ومريديهم، وبارّين بوطنهم الذي كان وسيبقى دوماً رمزاً للشموخ الوطني والوفاء للأمة من المحيط إلى الخليج.
رجال الدولة يسترون عيوب الوطن ولا ينكاًون جرحه الغائر، ولا يستبدلون النصيحة بالفضيحة، ولا يمارسون الاستقواء على الوطن والدولة. رجال الدولة يتحاورون بمروءة القادة، ويتخاصمون بأخلاق الفرسان، لا يناصرون الأجنبي على الوطن، وإذا استوجبت النصيحة الناجزة مورست في الموًتمرات والندوات وغرف الاجتماعات؛ بعيداً عن إضعاف الموقف وإرباك المشهد بوساىًل الإعلام، ليس من أجل الحكومة؛ بل إكراماً للوطن الذي هو بين الرمش منا والعين، لا يغادر ولا يستقيم الأمر فيه إلا بالعزة والعنفوان.
رجال الدولة لا يستبيحون مساحات القلق الوطني كي يطيح بركائز الدولة وموجبات الهيبة، ولا يستبدلون الولاء بالدهاء، والحرية بالهوية الفرعية، والوطنية بكسرة خبز على مائدة اللئام الذين امتهنوا ايذاء الشخصية الوطنية النقية، وقتلوا الطموح الشريف الذين يتجاوز الوقيعة الرخيصة، ومزاوجة الخطاب وتقديم النصائح المسمومة المشبعة بتصفية الحسابات الشخصية والسياسية والمناطقية للأسف، ورجال الدولة لا يقبلون الشعبوية على حساب هيبة الدولة، ولا يلوذون بالصمت على حساب كرامة الوطن.
وفي ظل اختلاط الخاص بالعام، والتفنن في أساليب اغتيال الشخصية، واستخدام الوسائل الجدية لتصفية مما تبقى من هيبة الدولة والمؤسسات، آن الأوان لجردة حساب في تحديد الأولويات الوطنية في السياسة والثقافة والاقتصاد والقيم الأخلاقية والديمقراطية، وآن الأوان لإعلان حالة الطوارئ في الانتصار لمبدأ سيادة القانون والمساواة والنزاهة والشفافية، فرجل الدولة يوظف القيم والأدوات السياسية لخدمة الوطن، والسياسي الذي لم يتمكن بأن يلحق بركب رجال الدولة هو مشروع مؤآمرة على الوطن والحق وسيادة القانون، وحمى الله وطننا الحبيب من كل سوء...!!