يخطئ من يظن أن توصيفنا الإيجابي لبعض سياسات الحكومة وقراراتها ، والثناء على بعض الوزراء أحياناً في معرض استعراضنا لجهودهم التي هي عرضة للثناء والنقد وفقاً لما نراه في مدى ارتقاء تلك الجهود وتماسها مع حدود المصلحة الوطنية العليا، أقول يخطو من يظن إنما هو انحياز أعمى أو نكوص عن ضوابط الأخلاق الوطنية التي تفترض الموضوعية في النقد والثناء على حدٍ سواء، ويخطئ أكثر من لا يدرك أن طبيعة المسافة بين الدولة والحكومة التي نراها تتسع وتضيق وفقاً لمقتضيات الاستهداف الممنهج، ومحاولات إضعاف الدولة ومؤسساتها التي تمارس أحياناً بأدوات سياسية ومظاهر مطلبية من جهة وبين قصور الحكومات وتقصير المسؤولين التي تستوجب النقد والمساءلة أحياناً أخرى .
في أزم المعلمين انحزنا بالكامل مع الدولة وسلطاتها الدستورية ورفضنا تهديدها من أي جهة دون أن نبخس المعلمين حقوقهم وواجب إنصافهم المعيشي، وقلنا ان الإضراب انتهاك لسيادة القانون، واعتذار الحكومة للنقابة أضعاف لمؤسسات إنفاذ القانون دون أن نصادر حق المعلمين في مساءلة كل من اعتدى عليهم او أساء لقدسية مهنة التعليم، من خلال القضاء دون الإضراب ، وقلنا أن الحراك – أي حراك - لا يقوم إلا على شرعية واحدة وهي سيادة القانون، وتمنينا وقتذاك ألا يسجل على الدولة اعتذار المضطر، وأن لا يستبدل مبدأ المساءلة عن الأخطاء - إن وجدت - بمنظومة الإعتذار السياسي المرهق لهيبة الدولة وحضورها بين القوى الاجتماعية والسياسية.
رفضنا الانتقاص من هيبة مجلس النواب وتمنينا لو تصرف المجلس كقدوة في الشفافية، وتبنى توصيات اللجنة القانونية بخصوص رفع الحصانة، والتي استندت الى أسس قانونية وفلسفة دستورية عميقة، وانحياز راقٍ لفكر الدولة وسلوكها الرصين الذي يفترض الشفافية والسلوك القويم في الأداء العام وحوكمة القرار الحكومي والنيابي على حدٍ سواء، وبالمقابل رفضنا تقليص الحصانة النيابية من اجل حفظ هيبة المجلس وحسن سير أدائه الرقابي والتشريعي.
كنت من الذين ذهبوا بعيداً في تأييد حكومة الرزاز وخاصة في مجال السياسات والتشريعات والقرارات المتعلقة بالنزاهة والشفافية ومكافحة الفساد والتي شكلت نقلة نوعية بدأنا نلمس آثارها في حجم ونوع اللقضايا المحالة من الحكومة ومجلس النواب الى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد والنيابة العامة، واختيار بعض الكفاءات الوطنية على قلتهم في الحكومة وبعض المؤسسات الرقابية، ومراقبة نمو الثروة التي طفقت هيىًة النزاهة في وضع أسس وأدوات الرقابة، وبالمقابل لم نتردد في نقد الحكومة بقسوة عندما أخطأت برأينا في ممارسات وقرارات وسياسات واستقدام بعض الطارئين على العمل العام، وكان لنا مواقف معلنة في هذا الشأن.
فلسفة العلاقة بين الحكومة والدولة فلسفة دقيقة ودمج المفهومين أحياناً ضرورة وبالذات عندما تنهض الأزمات الوطنية من قمقم الانتظار الى مساحات الاستهداف الخارجي بأدوات داخلية، او استهداف داخلي من قوى غاضبة محبطة هي على حق في أحايين كثيرة من حيث المحتوى لا التوقيت، وفي كلتا الحالتين لا يستطيع المراقب المخلص إلا الانحياز للتهدئة والابتعاد عن التثوير مهما كانت ردة الفعل من النخب والناس صخباً او حجماً، سيما في هذا الزمن المحشو بالعصبية والضغينة والنكران.
أخطر ما تتعرض له البلاد حالياً هو رفض الآخر وعدم قبول رأيه، والتطرف في أساليب الحوار، وإلغاء الآخر رأياً وسلوكاً وعقيدة أحياناً ، واحتكار الحقيقة والتخوين والتثوير للأشخاص والمؤسسات، واختلاط الفهم والممارسة بين حرية التعبير والإساءة الممنهجة واغتيال الشخصية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتشكيك الناس وتضخيم المخاطر إلى الدرجة التي تسهم في هروب الاستثمار القائم وخوف المستثمرين الجدد من القدوم للاستثمار في الأردن، وانحدار منظومة القيم الوطنية والأخلاقية الى مستويات مخجلة ومدانة.
الحكومة هي جزء من الدولة وقد تضحي كلها عندما تتعاظم المخاطر المحدقة أو في دعم الآمال الوطنية، وإعطاء الحكومة فرصة للاختبار ، وبعدها يصبح لكل حدث حديث، وحمى الله وطننا الحبيب من كل سوء..!!