إن جزءًا كبيرًا من تصورنا العام عن التاريخ يعتمد على إعادة التخيّل بناء على المعطيات الحالية التي نعيشها؛ أي أننا نفهم ماضينا من خلال فهمنها للحاضر. وبناءً على هذا الفهم فإننا نعيد ترتيب الماضي بطريقة المونتاج؛ فنحذف ما يزعجنا ونبقي على ما يرتاح له ضميرنا الجمعي. ووفقًا لذلك، فقد أدت الجهود الحقوقية لمناصرة المرأة الأردنية ورفع الظلم عنها إلى تثبيت سردية المظلومية، وهي سردية واقعية لها ما يؤيدها.
ولكن ذلك أدّى بالمقابل إلى إزاحة المساحة التاريخية الخاصة بالمرأة الفعّالة وصاحبة الدور في التاريخ الشعبي لصالح المساحة المخصصة للمرأة المظلومة ومهضومة الحقوق. بينما يكون الانتصار للمرأة بإعادة نبش تاريخها وتقديمه كما كان، لا كما أصبحنا نتخيّله، ونجد أنّ فكرة النخوة عند العشائر والقبائل تبرز أهمية المرأة ودورها.
والنخوة هي كلمة تشير إلى شيء ثمين أو حادثة مشرّفة أو امرأة تفتخر بها العشيرة، ويمكن إثارة حمية ونخوة هذه العشيرة وطلب نجدتها أو حمايتها أو عفوها عند ذكرها. وقد تكون النخوة اسم امرأة أو ناقة أو فرس أو لقب....الخ، ولكن أغلب العشائر الأردنية تنتخي باسم المرأة، وغالبا ما تكون هذه المرأة قوية الشخصية وشريفة السمعة. وإذا تتبعنا قصص نشوء هذه النخوات نستطيع أن نكشف جانبًا مشرقًا من تاريخ المرأة الأردنية والدور الذي كانت تلعبه.
وإذ كان الانتخاء بالمرأة غالبا ما يقترن باتخاذها أختا للعشيرة فإن البعض ينتخون بالأم مثل عشيرة الشريدة "أبناء موزة"، وموزة هذه من عشيرة العبيدات وهي نخوتهم أيضًا، فيقال لهم "إخوة موزة". وهي فتاة قوية وفائقة الجمال، كان لها تسعة إخوة جاءوا إلى إحدى قرى إربد نتيجة جلوة عشائرية -كما يقال- واستطاعوا أن يفرضوا وجودهم في المنطقة. وقد اشتهر جمال موزة في المنطقة حتى سمع به والي دمشق؛ فخطبها وتزوجا، ثم رافقته إلى الحج بصفته أمير الحج الشامي.
لكنه مات في طريق العودة؛ فأخفت موزة الخبر عن القافلة كي لا تعم الفوضى بين الحجيج وكي لا تكون القافلة مطمعًا للقبائل البدوية، وأصبحت تقود القافلة وتصدر الأوامر باسم زوجها حتى وصلت القافلة قلب حوران. فأرسلت موزة إلى إخوتها تطلب منهم اللحاق بها ومرافقتها إلى دمشق. وبذلك تكون هذا المرأة أول أميرة عربية للحج تقود قافلة الحج الشامي(1).
وهناك رواية تقول إن الوالي تزوّجها بالإكراه من خلال الضغط على أهلها بالترغيب والترهيب؛ وأن موزة وافقت كي لا تعرّض أهلها للهلاك، كما يقال إنها دسّت له السم في الأكل انتقامًا منه(2).
ثم بعد ذلك اصطدم والدها مع العثمانيين الذين سلّطوا عليهم العشائر المجاورة لهم التي كانت تطمع بأملاكهم وإخضاعهم، وكان الهجوم عليهم بقيادة عشيرة "الحجّات". فما كان من العبيدات إلا أن طلبوا التحالف والنصرة من ابن ربّاع مؤسس عشيرة الشريدة وزعيم منطقة الكورة واسمه "شريدة"، فطلب منهم تزويجه "موزة"، وكان هذا الزواج بداية لتحالف استمر سنوات طويلة غيّر مسيرة العشيرتين وزاد من قوتهما.
وكان عند شريدة خادم يحمله اسمه، وحينما حارب الشريدة والعبيدات عشيرةَ الحجّات وحاصروا مقر زعيمهم، طلب الأخير الأمان من شريدة فأعطاه إياه، وحينما نزل من عُليته قام بقتله؛ فعاتبه قومه على غدره به، فقال لهم بأنه لم يحدد أي شريدة يقصد: أنا أم الخادم؟(3).
ولقد دارت حرب طاحنة بين الطرفين ذهبت مثلاً في بلاد الشام يُضرب للتعبير عن المعارك والمشاجرات المشابهة، فيقال: (الطخ لأبو موزة).
وليس شرطًا أن تكون الفتاة/ النخوة أختًا أو زوجة في العشيرة؛ فعشيرة المجالي مشهورة في الكرك بنخوتها "إخوة خضرا" غير أن "خضرا" هذه ليست مجالية بل هي امرأة من عشيرة أخرى عاشت في العهد العثماني، وحدث أن الحامية العثمانية في الكرك -في النصف الأول من القرن التاسع عشر- أجبرت النساء هناك على توفير الماء ونقله إليهم بشكل يومي؛ الأمر الذي اعتبره الأهالي إذلالاً لهم، ولكنهم صبروا على الذل بسبب عدم مقدرتهم على الوقوف في وجه الدولة.
ولكن بينما كان أحد شيوخ المجالية يتمشى اعترضته خضرا وقالت له: (ما تشوف المي تسيل عن ظهورنا) في إشارة إلى الحالة التي وصلت إليها النساء، وكان هذا الشيخ يلقّب بالشوفي ويقال عنه (الشوفي يوعد ويوفي)، فاشتعلت جذوة النخوة في قلبه وقال لها: (أبشري وأنا أخوكي يا خضرا). فعاد إلى مضارب عشيرته وجمع رجال عشائر الكرك وقاد ثورة على العثمانيين وأجبرهم على إعفاء النساء من هذه المهمة(4). وأصبحت النخوة (إخوة خضرا) نخوة عامة لعشيرة المجالي حتى يومنا هذا.
أما قبيلة بني صخر فتتنوّع نخواتهم بتنوع عشائرها إلا أنّ النخوة العامة لهم هي "حمر النواظر"، أمّا النخوة بالنساء فتختلف باختلاف العشيرة، فعشيرة الخريشة على سبيل المثال تنتخي بـ (إخوة فلوة)، وفلوة هي الابنة الكبرى لرجل غريب نزل جارًا للخريشة وأقام بينهم فترة طويلة. وفي يوم من الأيام سمع رجال العشيرة صيحة فلوة؛ فهبوا لنجدتها، فوجدوها تبكي أباها الذي فارق الحياة تاركًا ثلاث بنات دون رجل يحميهن. فطمأنوها بأنها أخت لهم وأخذوا ينتخون باسمها، وصاروا بعد كل غزوة يخرجون للبنات حصّة من المغانم، واشتهروا بين العشائر باسم "إخوان فلوة"(5).
ويروى أنه كان هناك فتاة مسكينة (غير مكتملة النمو عقليًا) تعيش في إحدى قرى شمالي الأردن وكانت ترعى الأغنام في مناطق قريبة من القرية، فحدث أن قام أحد رعيان قرية مجاورة باغتصابها واستغلال ضعفها العقلي. ولم يكتشف أهلها القصة إلا بعد أن ظهرت علامات الحمل عليها، فسألوها عن الفاعل فأخبرتهم باسمه.
ولقد رفضت عشيرة الجاني أن تخضع للقضاء العشائري؛ فخرج ثلاثة فرسان من القرية للانتقام لشرف الفتاة، وفي الطريق نزلوا عند صديق لأحدهم وهو بدوي. وحينما أخبروه بالقصة، أخبر صديقه بأنهم إذا عادوا ظافرين فعليهم أن يمروا عليه في طريق العودة كي يكرمهم ويذبح لهم ذبيحة، أمّا إن فشلوا فإنه لا يريد أن يعرفهم بعد الآن. غير أنهم كانوا مصممين على الثأر، وبالفعل استطاعوا أن يثأروا للفتاة ... وفي طريق عودتهم مرّوا على البدوي فلاقاهم مستبشرًا وأطلق عليهم اسم الفتاة بوصفهم حُماتها، وأصبحت النخوة لصيقة بأهل القرية إلى يومنا هذا.
(1)- رواية شفوية: المهندس رائد الخطيب من قرية كفر سوم موطن العبيدات.
(2)- عبدالكريم الوزّان، لأبوموزة: موقع صدى نت.
(3)- مقابلة مع عبدالله كليب الشريدة أجراها أحد إخوته عام 1992.
(4)- الفارس البطل إسماعيل الشوفي: موقع إرث الأردن.