لا شك أن وباء كورونا الذي تحول الى جائحة عالمية هو أمر جلل، ولا يزال يودي بحياة الآلاف من البشر يومياً حول العالم، وقد أثرّ كثيراً على كافة مناحي الحياة الإقتصادية والاجتماعية والنفسية، و على جميع المستويات محلياً وعالمياً، فقد رأينا العديد من الدول تفرض قيوداً على الحركة ومنها من أوقف عجلة الإقتصاد والعمل خوفاً من وصول عدد الإصابات الى مستوى يفوق قدرتها ويضغط على البنية التحتية للقطاع الصحي فيها، الأمر الذي له عواقب وخيمة.
بدأنا نرى إجراءات احترازية في كل مكان،كحظر للتجول ،وتحديد أيام وساعات فتح المحال ، وتقييد حركة الموظفين ، والتعليم عن بعد، وإيقاف حركة الملاحة الدولية بكافة أشكالها، وبمعنى آخر قد شهدنا نمطاً جديداً للحياة، كنا نسمع أو نتحدث عنه فقط وكأنه ضرب من الخيال، ولم نتوقع في يوم من الأيام أن نعاصر ظروفاً كالتي نعيشها الآن.
اليوم وقد تجاوز العالم مرحلة الصدمة وبدأنا بتقبّل الحياة في ظل الكورونا وندخل مرحلة التعايش مع الكوفيد 19، فقد أصبح الأمر أشبه بمراحل نموذج "توكمان" في إدارة فريق العمل، فقد وصلنا الى "التوافق" بعد أن مررنا بمرحلتي "التشكيل" و"التصارع"، ومن ثم ننتقل الى "الأداء" وبعدها "الإنهاء"، وهو محور مقالتي هذه.
ماذا بعد الكورونا وهل لهذه الجائحة فوائد مخفية لم ندركها بعد؟
أضع أمام القارئ العزيز ثلاثة دروس وفوائد خفية تعلمناها، وخصوصاً قطاع الأعمال من خلال التجربة التي قد تكون مفيدة:
1.الإنضباط والالتزام: فقد أصبحنا لا نغادر منازلنا إلا للحاجة أو الضرورة بعد أن كنا لا نكاد نجلس فيها، لدرجة أن المنزل أصبح للبعض منا مجرد غرف فندقية ينام فيها فقط وجل وقته يقضيه في الخارج، وهو أمر له تبعات كبيرة بحد ذاته، فبحسب إحصائيات موقع statista قد انخفض معدل حركة المرور عالمياً الى أقل من 25% من الوضع الطبيعي في الفترة ما بين 3 مارس وحتى 5 مايو 2020 لمدن مثل ساو باولو، ونيويورك، ولندن، وموسكو، وميلان، هذا الأمر بحد ذاته له آثار كبيرة منها انخفاض معدلات استهلاك الوقود، ومستويات التلوث، وغير ذلك.
وهذا ينسحب على قطاع الشركات والأعمال، حيث بدأت تنظر الى الأمور بشكل مختلف فنجد ضبط المصروفات بكافة أشكالها من تسريح الموظفين واقتطاع الرواتب، إلا أن هناك جانب آخر ينعكس كذلك على الأعمال فيما يتعلق بضبط النفقات وترشيدها، ويكمن ذلك في القدرة على تحديد الأولويات الحقيقية والتمييز بين الأساسي والكمالي، إضافة الى إعادة النظر في الأمور التي كنا نعتبرها من المسلمات، مثال على ذلك طباعة مجموعة من الأوراق والاستعاضة عنها بالتوجه الى المعاملات الإلكترونية غير الورقية، وبالتالي تقليل عدد الطابعات وأجهزة المسح الضوئي وتقليل الاعتماد عليها وما يتبع ذلك من توفير في تكاليف المسلتزمات المكتبية واستهلاك الطاقة الكهربائية والمحافظة على الأشجار، الأمر الذي ينعكس أيجاباً على البيئة بشكل كامل.
2.الهيكلة وتقنين الإجراءات والعمليات: توجهت الأعمال كأول إجراء في تعاملها مع انتشار الكورونا الى النظر والتدقيق في أدوار موظفيها ومدى انتاجيتهم في العمل، وبدأت في تصنيفهم بناءً على ضرورة عملهم وأهميته ومستوى أداءهم وتقليص الأعداد في ضوء ذلك، ونتيجة لهذا الأمر فقد برزت الحاجة الى إعادة هيكلة المؤسسة والنظر في الإجراءات والعمليات، وتوجهت الى بناء هيكل أكثر رشاقة وتحديد الموارد بعيداً عن البطالة المقنعة.
وهنا نجد تجسيداً لمفهوم الإدارة الرشيقة للمشاريع والأعمال (أجايل)، أي بمعنى العمل بذكاء وتكلفة أقل بدلاً من العمل بجهد أكبر لتحقيق ذات الهدف، فهي فرصة للتقييم الذاتي وترتيب البيت الداخلي، وبذلك تصبح الشركة أو المؤسسة أكثر ثقة للخضوع للتدقيق الداخلي بأي وقت، متغلبة على المخاوف والآثار السلبية التي تصاحب تلك العملية.
3.العامل البشري هو الاستثمار الأكبر: أثبتت جائحة كورونا مرة أخرى أن العامل البشري هو الاستثمار الأهم والأكبر لأي شركة أو مؤسسة، وينبثق عن ذلك جانبين مهمين، أولهما: وضع استراتيجيات لاستثمار الكفاءات المتوفرة بالشكل الأمثل خصوصاً في ظل لجوء الشركات الى تسريح موظفيها.
أما الجانب الثاني فهو وجود خطة لاستعادة المواهب مستقبلاً أو إبقائها في متناول اليد لاستردادها في المدى المنظور، وأفضل مثال على ذلك هو الشراكة الاستراتيجية بين الإتحاد للطيران وشركة جال(Global Aerospace Logistics – GAL) ، فقد تم منح موظفي طيران الإتحاد الذين خسروا وظائفهم عقود عمل مؤقتة لدى شركة جال لمدة ستة أشهر (قابلة للتمديد)، وعند عودة الأمور الى طبيعتها فإن الموظفين يعودون الى رأس عملهم في شركتهم الأم، ويتجلى لنا هنا بُعد النظر والتفكير الاستراتيجي واهتمام طيران الاتحاد بموظفيها وفتح آفاق جديدة لهم، وهو درس في مفهوم الأمان الوظيفي.
الشطر الآخر للمعادلة هو أهمية التواصل المفتوح والشفافية مع الموظفين وإحاطهم بالمستجدات ودعوتهم ليكونوا طرفاً فاعلاً في الوصول الى الحل بدلاً من أن يتلقوا التعليمات والقرارات فقط، فهذا يزرع لدى الموظفين حس الانتماء ويدركون بذلك مدى اهتمام إدارة المؤسسة بهم وبمستقبلهم الوظيفي.
ولا ننسى هنا الفئة التي بقيت على رأس عملها، فهي بحاجة الى رعاية واهتمام وطمأنينة، وهنا يأتي دور إعادة الهيكلة الفعالة التي تعود بالنفع على المؤسسة والموظف في نفس الوقت، فلا يعني ذلك إيجاد مهمة أو دور فقط بل استغلال الفرصة لتوجيه الطاقات والكفاءات وتهيئة الظروف للإبداع والابتكار، ويعتبر هذا الظرف هو الوقت الأمثل لطرق باب الفرص وإثبات قدرة المؤسسة على تمكين موظفيها ورعايتهم لكي ينهضوا بها.
لا يقتصر الأمر على ما أسلفت إلا أن هذه الدروس الثلاثة هي الأبرز في رأيي ، ولا أنكر أن جائحة كورونا أمر جلل وقد أصابت الكثير من الأشخاص وأودت بحياة الكثيرين وقد ينتج عنها إفلاس دول وخسارة مئات الآلاف حول العالم لوظائفهم، ولكن يجب أن نتجاوز المحنة ونتغلب عليها لنعطي درساً للأجيال القادمة في التكيف مع الظروف والتغلب على الصعاب، فهو ليس أول وبّاء في تاريخ البشرية ولن يكون الأخير، فإلى متى سنظل نعمل بأقل من نصف الموارد والطاقات وضمن القيود ؟
هذه فرصتنا لنبني على تجاربنا ونستعد للمستقبل وننتقل الى مرحلة الإستفاقة والإنتعاش من وباء كورونا، فالعمل يبدأ الآن وما مررنا به ما هو إلا البداية فما يزال أمامنا الكثير.