اكرر ما قلته من قبل عن التعليم التقني والإهتمام به، والذي أصبح من أولويات المتابعة لجلالة الملك، والحكومة، وكل العارفين بأهميته في وطننا، ولا ننسى تجارب الدول المتقدمة والتي عمادها الإهتمام بالتعليم التقني، ولم تكن هذه الأهمية عبثا، بل لأن التعليم التقني هو عماد قطاع الإنتاج والخدمات، بالتشارك مع أقطاب هرم القوى العاملة، التعليم المهني والمتخصص (الهندسي والتطبيقي الجامعي)، ولأنه أي التعليم التقني يعد محركا لقطاع الصناعة ورافعة للاقتصاد الوطني، وأيضا رافعة مؤثرة في الجانب الاجتماعي من خلال الحد من البطالة وما يترتب عليها من المشاكل الاجتماعية والإقتصادية التي تهدد بنية المجتمعات والأوطان.
كتبت في عام 2017 مقالا بعنوان مجلس التعليم العالي يطلق رصاصة الرحمة على التعليم التقني، وكان سببي في حينه تخفيض المجلس لمعدلات القبول لجامعات الأطراف 60- 64.9%… !، وهنا اعود الى البدايات حيث عانى التعليم التقني من تدني نسب الملتحقين مقارنة بالتعليم الجامعي بفروعه المختلفة، واجزم أن السياسات هي المسؤولة عن ذلك، إضافة لثقافة المجتمع في البحث عن الشهادة الجامعية، وضعف البنية الصناعية في البدايات، وكان اهم معيق للتعليم التقني سابقا هو النهايات المغلقة، إذ كانت التعليمات لا تتيح لطلبة المعاهد الهندسية (البوليتكنيك) في حينه وكليات المجتمع بعد 1982 إمكانية التجسير، ومعروف أن النهاية المغلقة لأي نظام تعليمي سلاح ذو حدين، ففي حين تتيح تخريج تقنيين موجهين فقط لسوق العمل، إلا أنها تعمل على الحد من أعداد الملتحقين، لإنعدام تلبية الطموح لمن يرغب ويقدِر لمتابعة تحصيله، والإحصائيات لسنوات خلت توضح ذلك، وتوضح زيادة أعداد الملتحقين عندما طُرح نظام التجسير ومتابعة الدراسة،وتأتي هذه التوصية بوقف التجسير مخالفة للتجارب والممارسات العالمية الفضلى والتي تؤكد على النهايات المفتوحة للمستويات التعليمية المختلفة، وقد تكون التوصية مقبولة في الدول الصناعية المتقدمة، والتي تعطي التقني وضعاً اقتصادياً واجتماعياً يفوق خريجي الجامعات، والثقافة لديهم لصالح التعليم التقني، وهذا ما لم نصل إليه بعد في بلادنا، فبرغم كل التوصيات بتحسين وضع التقني، ووضع نظام للحوافز المالية لتشجيع الالتحاق في التعليم التقني، ولان كل القراءات الإحصائية في بلدنا تشير إلى تغول وانفلات التعليم الجامعي والذي وصل عدد الطلبة فيه إلى 320 الف طالب، في حين أن عدد الملتحقين في التعليم التقني بالذات قد تناقص كثيراً.
أسوق هذه المقدمة لتأكيد ما قلته من قبل في مقالات عدة بموضوع التعليم التقني وتراجعه، إذ أن أهم سبب لتراجع التعليم التقني وتدني نسبة الإقبال عليه هو السياسات التراكمية العقيمة والتي عملت وبشكل مباشر على تعزيز التوجه نحو التعليم الجامعي الذي يغذي سوق البطالة، على حساب التعليم التقني، ومنها التوسع المنفلت في التعليم الجامعي، وتخفيض معدلات القبول للجامعات الخاصة، حيث اصبح التعليم الجامعي والذي أضحى نتيجة التخبط وعدم رسم السياسات الصحيحة، وسيطرة رأس المال، عالة على الاقتصاد الوطني، لتركيزه على الكم دون النوع، والتوسع غير المبرر فيه، والذي يعد من باب اقتصاديات التعليم هدر لا تعود عوائده على الاقتصاد الوطني في ظل نسب البطالة الكبيرة بين الخريجين.وعدم منح حوافز مناسبه لخريجي التعليم التقني، وعدم توفير الدعم الحكومي المناسب للتعليم التقني مثله مثل التعليم العام والعالي، مع ان الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية وضعت هدفاً لزيادة الملتحقين في التعليم التقني للوصول لنسبة 20 % من عدد الملتحقين في التعليم الجامعي مع نهاية 2025، وهي نسبة متواضعة بالمقارنة مع بعض الدول المتقدمة والتي تصل النسبة فيها 40% وأكثر ، فإذا عرفنا ان عدد الطلبة في الجامعات يدور حول 300,000 طالب وقد يزيد، ففي نهاية 2025 وهو الموعد المرحلي المقصود للإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، يجب ان يكون عدد الطلبة الملتحقين في التعليم التقني يقترب من 60,000 طالب، وهذا ما لا اظن انه سيتحقق، كون السياسات في مجال التعليم التقني ما تزال طارده، والثقافة لم تتغير، ويجب ان نركز على أعداد الطلبة في التعليم التقني فقط
Pur Technical Education
وليس كل الملتحقين بالتعليم الجامعي المتوسط التطبيقي وغيره حيث نسب الالتحاق بالتعليم التقني ما زالت متدنية نسبياً.
كما اسلفت النهايات المفتوحة لأي مستوى تعليمي وبالذات التعليم التقني تزيد من نسب الإلتحاق به، وهي بالمفهوم الإنساني التربوي حق للمتعلم، وتلبية لطموح المتفوقين لمواصلة تحصيلهم الدراسي، ولكن من خلال تقنين عملية التجسير والتي كانت 20% سابقا، وجرى تخفيضها تدريجيا للوصول إلى نسبة صفر بعد ثلاث سنوات من التطبيق، من هنا اعتقد ان قرارات مجلس التعليم العالي الأخيرة يوم الأربعاء الموافق 24 / 6 / 2020
والتي سُميت السياسة الجديدة لقبول الطلبة الحاصلين على الشهادة الجامعية المتوسطة (الامتحان الشامل) في الجامعات الأردنية من خلال التجسير للعام الجامعي ٢٠٢٠ / ٢٠٢١ والتي تضمنت رفع الحد الأدنى لمعدل الامتحان الشامل المطلوب للتجسير في التخصصات الهندسية والصيدلة والطب البيطري ليصبح (٧٥٪) في حين أصبح الحد الأدنى لمعدل الامتحان الشامل المطلوب للتجسير في باقي التخصصات الأخرى هو (٧٠٪)، إضافة لقرار المجلس رفع هذه المعدلات اعتباراً من العام الجامعي ٢٠٢١ / ٢٠٢٢ لتصبح (٨٠٪) في التخصصات الهندسية والصيدلة والطب البيطري و (75٪) في باقي التخصصات الأخرى، واعتقد ان هذا القرار هو (لزوم ما لا يلزم) سيما ان الوزارة بدأت تطبيق تخفيض اعداد المجسرين بنسبة 5% كل سنة من ال 20% السابقة للوصول لنسبة صفر للتجسير كما اسلفت، وما زلت مصراً على رأيي أن هذا سيحد ويقلل من عدد الملتحقين في التعليم التقني، ليس من باب تشجيع التعليم الجامعي المشبع اصلا، بل من باب عزوف الطلبة عن الإلتحاق بتعليم تقني مغلق النهاية، وموجه لسوق العمل فقط، ولا يلبي طموح المتفوقين والراغبين بمتابعة دراستهم، المطلوب تقنين التجسير وليس وقفه كلياً، ومن خبرتنا أن الطلبة في ظل تعليمات التجسير السابقة معدلاً ونسبةً كانوا يذهبون للتعليم التقني برغبتهم، ليحصلوا على شهادة تقنية تؤمن لهم التشغيل او التشغيل الذاتي، وبعضهم كان يذهب للدراسة بسعر رمزي ومن ثم التجسير، ومن يرغب بالتجسير يستطيع ضمن شروط مقننة، والواقع ان نسبة المجسرين بقيت تدور حول 20% ، أما حاليا في ظل إلغاء التجسير قريبا ورفع المعدلات فإن الطلبة سيلجأون لطرق أخرى لتأمين الإلتحاق بالجامعات، حيث لن يعود التعليم التقني مغلق النهاية خياراً لمن يرغب ويقدر على التجسير، إما بإعادة الثانوية العامة ورفع المعدلات، أو الذهاب للجامعات الخاصة للإستفادة من معدل القبول 60% ، وهذا المعدل كان بالأصل من الأخطاء التي جعلت الكثير من الطلبة يتجهون نحو الجامعات الخاصة والتي توفر لهم اسعار ساعات تقارب او تقل عن اسعار ساعات التعليم التقني، من هنا سنجد بعد فترة أن ما نقصده من رفع سوية المجسرين والتضييق على التجسير سيفرغ التعليم التقني من طلبته بنسب كبيره، وسنعود مرة أخرى بعد عدة سنوات لندرس سبب إنخفاض اعداد الملتحقين بالتعليم التقني مغلق النهاية..! وسنكتشف اننا يجب ان نفتح نهايته ونعود للمربع الأول، في ظل إنعدام استراتيجيات وأدوات الإرشاد والتوجيه المهني، وكذلك عدم وجود حوافز مشجعة لخريجي التعليم التقني، وإقفال الباب أمام طموحاتهم للتقدم الراسي، ناهيك عن ثقافة الشهادة الجامعية كخيار اول في مجتمعنا حتى لو كانت تقود لسوق البطاله، منوها أن هنالك وعي، ولكنه محدود عند البعض بأهمية التعليم التقني والإلتحاق به عن رغبة، فما زلنا دون الطموحات بذلك، وأعتقد أنه يجب على مجلس التعليم العالي وضع مسارين للإلتحاق بالتعليم الجامعي المتوسط وبالذات التعليم التقني، المسار الأول محدد لسوق العمل ويمنح شهادة الدبلوم ويتم التركيز فيه على مواد التخصص والجوانب العملية المهارية، والمسار الثاني ببرنامج مختلف يقود للتجسير أو سوق العمل وتكون مواده قريبة من الوضع الحالي بما يتيح التجسير للطالب لاحقاً إذا حقق الشروط المطلوبة وضمن نسبة معقولة مقننة.
وللحقيقة فالتعليم الجامعي ككل هو الذي بحاجة لهيكلة وإعادة تنظيم وتقنين لصالح التعليم التقني، الإشتراطات الكثيرة للتجسير من معدلات ونسب ستكون سبب رئيسي لإطلاق رصاصة الرحمة على التعليم التقني، ومن لا يصدق عليه أخذ أعداد الطلبة الملتحقين في التعليم التقني فقط، دون التعليم الجامعي المتوسط ببقية تخصصاته وسيجد ان النسبة قليلة جدا كما أسلفت، ولا اريد ان اذكرها حتى لا نُصدم بالواقع… ! مع أن أعداد الطلبة الملتحقين بالتعليم الجامعي المتوسط زادت بنسبة كبيرة في آخر اربع سنوات ولكن تبقى نسبة الملتحقين بالتعليم التقني متدنية نسبيا للأسف من بينهم، وليست قريبة ابدا من طموحات الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، وطموحاتنا ومتطلبات الإقتصاد الوطني.
قد يكون من الأفضل مراجعة المحددات التي وضعها مجلس التعليم العالي، فلماذا تحديد المعدلات ورفعها مع وجود حد ادنى سابق ووجود نسب للتجسير تأخذ الأعلى معدلا..! ضمن النسب المقرة..! التعليم التقني بحاجة لسياسات تدعمه والسياسات الحالية لن تسعفه، يجب إبقاء التجسير، وتقنينه، ومن ثم العمل على رفع سوية ظروف التشغيل والإمتيازات لخريجيه، إضافة لتفعيل التوجيه والإرشاد المهني في المدارس والمؤسسات التعليمية، بحيث يصل الطالب الصف العاشر وقد حدد وجهته بناء على رغبته واتجاهاته وقدراته، وبعدها يبقى دور الإرشاد والتوجيه المهني قائما حتى متابعة الخريج في عمله وتوافقه مع عمله، فهل عملنا الجهد المناسب بذلك؟ أعتقد أن هنالك الكثير لنفعله، لرفع سوية ونسب الإلتحاق بالتعليم التقني… ..حمى الله الأردن.