بقلم العقيد م. الدكتور عامر العورتاني
أخصائي علم اجتماع الجريمة
مجموعة من الشباب الأردني استغلوا شُعلة الحماس في نفوسهم ، وأرادوا أن يجدوا مكاناً لهم في قوائم الرواد ، فقاموا بإشعال شمعة بدل أن يلعنوا الظلام ، لتنير شمعتهم درباً طويلاً وإن بدا شائكاً ، مشروع للزراعة المائية في الجميلة مأدبا ، والهدف تسريع عملية النمو وتجويدها لتحقيق عوائد أكثر ، وبإمعان النظر فإن المشروع ولا شك رائد في الأردن ، إلاّ أن ريادة الفكرة في وطننا الحبيب لم تكن فقط ما يثير الشجون ، فإنّ خبراً كهذا كفيل بضخ كمية كبيرة من هرمون السعادة وإيجاد حالة من الفرح وسط القتامة التي تلف نشرات الأخبار في مختلف المحطات، وهي تمتلئ بإحصائيات ضحايا الكورونا حول العالم ، فتتبعها عشرات البرامج التي تحلل تبعات الأزمة الاقتصادية وتنبئ بانكماش اقتصادي سيخلف طوابير طويلة من البطالة ، لتتطوّع المُخيّلة قافزة بالنتائج الحتمية من فقر وجوع وانحراف وجريمة .
لقد أبصر هذا المشروع النور خلال جائحة الكوفيد – 19 ، أي أنّ ظروف الجائحة وما استلزمته من إجراءات وقائية وقرارات حظر وإغلاق لم تثن هؤلاء الشباب عن المضي قدما ، بل شكلت حافزاً للإفادة من المميزات التي تُتيحها التطبيقات الرقمية للإبقاء على أنفاس المشروع الوليد ، لقد برهن هؤلاء الشباب على أنّ الفرص تولد في الأزمات ، وأنّ المشاريع الريادية بمختلف أحجامها قادرة على الاستمرار إذا ما توفرت لها عناصر التخطيط والإدارة إلى جانب الإحاطة بالثقافة الرقمية ، كما أثبت هؤلاء النشامى على أنّ الشباب الأردني مفعم بالطاقة الخلاّقة ، وهو قادر على التحدي والإبداع في مواجهة الظروف القاسية وبطرق مبتكرة ، فهؤلاء الشباب بعض من سوسن هذا الوطن الذي يأبى أن يكبر إلا على ترابه فيبدع في إيجاد الحلول بدل الهرب إلى أعالي البحار .
والواضح أنّ المرحلة القادمة ستكون تحدياً حقيقياً للعالم أجمع ، لكنها في الوقت ذاته فرصة ثمينة لتحريك الحجر في الاتجاه الصحيح على رقعة الشطرنج فما بين اللونين الأبيض والأسود تولد المواهب ، ليفوز مهزوم الأمس بلعبة اليوم ، فاحترام الريادة لم يعد خطاباً متخماً بالوعود التي تتهافت أمامها الأحلام والطموحات ، وإنما أصبح ضرورة وطنية للنهوض باقتصاد الوطن وإيجاد حلول واقعية لمشاكل البطالة والفقر ، من هنا فإن الريادة والابتكار ثقافة ينبغي تأصيلها في المناهج الدراسية ورعايتها عبر استراتيجيات التدريس القائمة على الاستقصاء وحل المشكلات ، لإيجاد جيل يتكئ على أسس البحث العلمي في مواجهة المعاضل ، فيواجه الحياة وهو يؤمن بالتميز ويتخذ من الإبداع مهنة ، فيحسن التكيف مع الواقع بإيجابية فاعلة ، وحتى تتلاشى تلك الكُتل من العقبات البيروقراطية والمالية ، فإنّ العمل بصدق على نشر ثقافة التميز ودعم الأفكار الريادية والسعي لتحويلها إلى مشاريع إنتاجية يجب أن يشكّل استراتيجية أساسية للحكومات ، والأمس في دول كاليابان وسنغافورة ليس ببعيد ، وقد جعلت البحث العلمي والابتكار الصناعي أساساً لبناء اقتصادات عملاقة .
إذاً فإنّ الريادة الإنتاجية ليست ترفاً أو وعود ، بل أصبحت ضرورة أمنية لا تقل أهمية عن امتلاك الثروات الطبيعية أو الاستقواء بأكثر الأسلحة دماراً ، فالغلبة اليوم لمن يستحوذ على قصب السبق في صناعة المعلومة والتحكم في نشرها عبر التكنولوجيا الرقمية بدل الاكتفاء بدور المستهلك في السلم الحضاري .