انتشرت في السنوات القليلة الماضية حالة مقلقة قد ينمو حجمها لتصبح ظاهرة تتعلق ببث مقاطع مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي توثق لبعض عمليات الانتحار ، حيث حظيت هذه المقاطع بنسب مشاهدة عالية مصحوبة عند البعض بموجة من التعاطف والتضامن ، الأمر الذي تكمن خطورته في تشجيع البعض على الإقدام على سلوك مماثل ، ذلك أن المتلقي يجد الكثير من التفاصيل اللافتة وهذا يوحي بأنّ الانتحار يلعب دوراً في الرواية قبل وقت طويل من وقوعه في النهاية ، كما أنّ قصص الانتحار لها تأثير في سلوك الأشخاص الذين تدور فكرة الانتحار في عقولهم وتراودهم عليها نفوسهم ، فهو لا يُغفل أي تفصيل عن العملية برمتها عند جمع المعلومات حول حيثياتها ، لذلك فإنّ مقاطع الانتحار التي تبث عبر بعض وسائل التواصل الاجتماعي قد تشكل دافعاً لبعض الذين يعانون من الدرجة نفسها من الاكتئاب والإحباط ، أو الدوافع والظروف ذاتها ما يجعلهم يعتبرون خطوة الانتحار مشروعة في نظرهم وحلّاً مُسوَّغاً في قناعتهم فيقدمون عليها أملاً في الخلاص ، فيكون روّاد تلك المواقع ممن تعاطفوا مع المنتحر وأبدوا انفعالاً داعماً لسلوكه قد هيأوا الظروف دون قصد لحالة انتحار أخرى تعقب الحالة التي تعاطفوا معها ، فالمنتحر أحوج ما يكون إلى التعاطف مع آلامه .
نقطة أخرى أخطر من سابقتها تتعلق بحالات الانتحار ووسائل التواصل الاجتماعي ، وهي تلك الكلمات التي يخطها المنتحرون قبل تنفيذ حكم الانتحار بحق أنفسهم ، فتجد الكثير من الرسائل التي تنطوي على أبعاد فلسفية عميقة ، ورؤى إنسانية مُغرقة في تراجيديا الحياة ، فيُسطرون بكلماتهم الأخيرة حكماً بالموت الطوعيّ ، فأي حكمة تلك التي أُوتيت ذلك الشخص قبل لحظات من مواجهة الموت ؟! وهل هي شجاعته التي كانت حاضرة في تلك اللحظات ليواجه الموت كالأبطال في ساحات الوغى ؟! ، أم أنه الخوف من مواجهة واقعه الصعب وفقدانه شجاعة الشجعان ما دفعه لمثل هذا الاختيار ؟! المشكلة تكمن في أنّ أغلب الرسائل المتداولة عبر بعض المنصات ما هي إلاّ فبركة شخصية وفرقعة إعلامية الغاية منها جمع أكبر عدد من اللايكات والمشاركات ، والخطر يكمن فيما تتركه تلك الرسائل من أثر في نفوس من يفكرون بالانتحار وكأنها تجرهم جرّاً نحو هاوية الموت ، وبالمقابل فإنّ بعضاً من الرسائل كانت مكتوبة بخط مرتعش ولغة بسيطة عبرت عمّا أراد المنتحر أن يبوح به للعالم قبل وداعه إلى الأبد ، فهم غالباً آسفون لأنهم لم يتمكنوا من المقاومة ، أو مواجهة خطأ ما قد اقترفوه ، أو هرباً من واقع اقتصادي أو اجتماعي ضاغطٍ و قاسٍ ، وبالمحصّلة فإنّ العجز عن إكمال مسيرة الحياة وتحمّل ضغوطاتها هو ما دفع بأولئك الذين كانوا ضحايا الانتحار .
وتتعدد الوسائل التي يُسدل من خلالها المنتحرون الستار الأسود على قصتهم مع الحياة ، فقد يختار البعض أن يموت بجرعة عالية من الدواء أو المخدرات أو تناول مادة سامّة بكلّ بساطة ، ومن الشائع أن يلجأ بعضهم إلى الشنق ، أو قطع الوردة ، أو القفز من فوق سطح مرتفع ، أو إلقاء أنفسهم أمام قطار أو سيارة ، وهناك من اختار لنفسه وسيلة مُغرقة في الألم كإشعال النار في نفسه ، أو التعرض للتيار الكهربائي أو الغرق في الماء أو إطلاق عيار ناري ، وكان قلة بمنتهى الغباء عندما أشعلوا النار في وجوههم لينتهوا بعاهة مستديمة وقد عاندهم القدر بالبقاء على قيد الحياة .
إنّ الانتحار ولا شك يشكّل نهاية مأساوية للمنتحر والمحيطين به والمجتمع بأسره ، لا سيّما وأنّ مثل هذه الحالات في ازدياد في ظلّ الضغوطات الاقتصادية والنفسية والاجتماعية التي يفرضها وقع الحياة الماديّ والمتسارع ، وتضاؤل المساحة الروحانية التي لطالما شكّلت مأوى آمناً من مثل هذه النهايات ، لذلك فإنّ من الضروري العمل ابتداء على إجراء دراسات متخصصة لمتابعة نسق المجتمع العام ، وجمع البيانات ، لتحديد الفئات القابلة للتأثر بالعوامل المؤدية إلى الانتحار ، بهدف امتلاك القدرة على اتخاذ الاجراءات الوقائية مسبقاً ، ما يتطلّب تفعيل دور مراكز الأبحاث والدراسات لتناول العلاقة بين الانتحار والمتغيرات النفسية ، والتأثيرات الاجتماعية ، بهدف إعداد برامج وقائية لتعديل السلوك عند الأفراد الأكثر عُرضة لهذا الاختيار المأساوي ، كما يجب العمل على توفير مظلة للعلاج النفسي على نحو اجرائي بما يكفل للمرضى تجاوز مرحلة التفكير بالانتحار ، وإنّ أكثر ما يحتاجه الشخص المُقبل على الانتحار هو الإصغاء واللقاء بمن يستمع له ويقدم له الدعم العاطفي المطلوب ، وهو ما يمكن أن يتحقق عبر دراسة الظروف المحيطة عادة بالمنتحرين ، ومن خلال الإلمام بالتفاصيل فإنه يمكن تشكيل فرق مختصة لتقديم العون تابعة للأجهزة الأمنية والطبية المختلفة ، ما قد يشكل فارقاً في التوقيت المناسب لشخص باتت حياته رخيصة في نظره وقد تجرّد من كل معاني الحياة وغاياتها ، وإنّ الخطاب الديني الُمحِب والمتسامح والمُشرق و الباعث للأمل عبر المساجد والكنائس يمكن أن يشكل وسيلة هامة في الحدّ من نسب الانتحار ، كما يجب وضع السياسات التي تقيّد الوصول إلى الوسائل والأدوات التي تمكّن من الانتحار ، لا سيّما الأماكن البارزة بارتفاعها والتي تشكل منبراً يوصل من على قمتها المنتحر رسالته الأخيرة ،