الإستقامةُ عملةٌ نادرةٌ في هذه الأيام، ويخالكَ أنك لا تجدها اليوم لأنَّ مجتمعاتِنا تتحول من مجتمعات إنسانية إلى مجتمعات لا إنسانية، يستبد فيها القوي بالضعيف ويأكل فيها الكبير الصغير، ويتجبّر فيها المستبّد بالمسكين، ولا مكان فيها للصالح والصلاح، فيذهب الصالح بعروى الطالح، ويصبح الصالح ضحية صلاحه، لأنَّ الصلاحَ والاستقامةَ عقبةٌ كبيرةٌ أمام ازدهار الفساد والمفسدين في الأرض.
ولكنَّ الإنسانَ المستقيمَ هو الإنسان الذي له الطوبى الإلهية " طوبى للرجل المتقى الرب المسرور جداً بوصاياه"، فهذا الإنسان هو من تحلُّ عليه بركات السماء، وهذه البركة تنتقل أيضاً لأودلاه، "فجيل المستقيمين يبارك" (مز 2:113)، ونسله يكون قوياً في الأرض، لأنَّ أبناءَه يكونون حقاً كسلاحٍ بيد جبّار، ويكونون كغروس الزيتون حول مائدته.
وأما في بيته فيكون هناك رغدٌ وغنى. فهذه هي الثروة والغنى الحقيقيين، وهي أسمى بكثير من الثروة والغنى المادي لأنَّ السعادة الحقيقية غير مرتبطة بالمادة والمال، مع أنها ضرورية للحياة وأساسية ولا غنى عنها، ولكنْ كم من أناس لا تأكل النيران أموالهم، ولكن تنقصهم السعادة الحقيقية والثروة الحقيقية، لأنه "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه"؟
ويبقى الإنسان المستقيم هو الإنسان المنتصر وصاحب الغلبة الحقيقية في النهاية إذ له الطوبى الإلهية، فَقَرنُه ينتصب بالمجد، ففي حياته يُشرق عليه نورُ الرب فينيرَ ثنايا قلبَه ويهديهِ في طريق الخير والصلاح والبر، وفي مماته لا يُنسى برّه، فذكراه الطيبة تكون للأبد "فالصدّيق يكون لذكر أبدي"، فلا تقدر أيادي الغدر أنْ تمحيَ أثار أعمال الإنسان الصالحة والطيبة لأنه يتربع على عرش قلوب الناس ويلازم أفكارهم. هذا أعظم تكريم له في حياته وفي مماته. ففي حياته لا يخشى خبر سوء لأنّ قلبه ممكّن، ثابت، ولا تُضعفه الشائعات والاتهمات والمضايقات، فلا يَضعف ولا يَستكين في صلاحه مهما اعترضته سهام الشّر والشرير لأنَّ قلبه متكلاً على الرب، وله الطوبى التي لا يقدر أحد أن ينزعها، بل يزداد أكثر في صلاحه وبرّه ومخافته لله ومحبته لوطنه ولناسه.