حقيقةً أنَّ الله لم يَنْظُرهُ أحد، لكنَّ كثيرينَ يلمَسُون حضور الله بينهم وفي وسَطهم، لأنَّ الله يَسكُنُ حيث تَسودُ المحبة. فالقلوب الخالية من المحبة هي قلوبٌ سوداءٌ لا تعرفُ إلا لغةَ البُغضِ والكُرهِ والحَسدِ والخِصامِ والإِنتقام. ومثلُ هذه القلوب لا تبني تألفاً بين البشر، ولا بيوتاً تدوم، ولا مجتمعات وأوطان حقيقية ترنو للمعالي والقمم.
هذا على عكس القلوبِ التي تَنبضُ حباً نابعاً من الذات الإلهية، لأنَّ اللهَ بذاتِه هو "محبة"، وهذا أقوى تعبير عن كيان الذات الإلهية بخلاف فلسفات يونانية وإغريقية كثيرة. ومن ملئ محبته الغامرة خلق الله العالم وخلقَ البشريةَ ورسم لها طريق النجاة والخلاص، ودعانا لنعيش ونعكسَ جمالَ وكمالَ محبته التي لا تنتظر مقابلاً ولا أجراً ولا امتيازاً بل محبةً خالصةً تَبذُل ذاتَها من تلقاءِ ذاتِها كالشمعةِ التي تذوبُ بِخيطِها لتُشعلَ نوراً مُشعَّاً من حولها.
وكبشرٍ فنحنُ مدعوون لنعيش بهذه المحبة الخالصة، لأننا بها فقط نكتشفُ سِرَّ إنسانيتنا، وأهميَّةَ وجودِنَا، ونقدِرُ أنْ نلمسَ حقاً وجودَ الله في قلوبنا، لأنّهُ هناكَ يَسكُنُ الله حقاً. هناك يجد الله له مسكناً ليفجِّرَ فينا طاقاتِ الحبِّ والخيرِ والإنسانيةِ من غير حساب، وهناك تَجدُ محبتُهُ الإلهيةُ طريقها من خلالنا فَتكتَمِلَ، وتكمِّلُ المحبَّةُ التي أرادَها الله أن تسكنَ في عالمنا البشري، الذي للأسف الشديد يَهوَى كلَّ شيءٍ إلى هذه المحبة لأنَّهَا مكلِفَة، ولا تَكنز ما لنفسها, ولا تطلب ما لنفسها بل ما هو لغيرها، ولا تعرف الحسد أبداً ولا تَكْبرُ على حساب الآخرين ونجاحاتهم وتعبهم، ولا تفرح بالشّر، ولا ترقص على دمار الآخرين ومصائبهم، بل تفرح بالحق وتعمل لأجلِ الحقِّ وتناضل لأجلِ الحقِّ، لا وبل وتموتُ لأجل الحقّ. هذه المحبة لا تسقط أبداً.
لذلك تغنى جبران خليل جبران بهذه المحبة، التي لحنها الأخوين الرحباني وغنتها ايقونة وأرزة لبنان فيروز، قائلا:
المحبة لا تعطي إلا ذاتها, المحبة لا تأخذ إلا من ذاتها. لا تملك المحبة شيئاً, ولا تريد أن أحد يملكها، لأن المحبة مكتفية بالمحبة.
المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار حنطة. المحبة على بيادرها تَدرُسكم لتظهرَ عريكم. المحبة تغربلكم لتحرركم من قشوركم. المحبة تطحنكم فتجعلكم كالثلج أنقياء. المحبة تعجنكم بدموعها حتى تلينوا, ثم تعدكم لنارها المقدسة, لكي تصيروا خبزاً مقدساً يقرّب على مائدة الرب المقدسة.