لا أعلم لماذا اخترت ليلة الأمس بالتحديد للخروج بحثاً عن الهواء النقيّ ، ربما كان قيظ الموجة الحارّة التي حلّت ثقيلة على أيلول ، وربما كانت طاقة جذب القمر وقد اكتمل بدراً هي ما استدرجني ، فتمام استدارته تستنفر الرومانسية النائمة في النفس ؛ لتُسبغ ثوباً من الجمال الحالم على كل شيء ، وهكذا وجدتني أتوجه إلى جبل الحسين ، حيث طفولتي وريعان الشباب وسجلّ الذكريات ، وإلى جوار كشك الكتب أختار دائماً أن أجلس على المقعد الخشبي ؛ فصاحب الكشك رجل أنيق المظهر ، ثريّ الحديث ، كيف لا وقد احترف الثقافة ، وحيث أنني اعتدت أن أبتاع الكتب منه منذ زمن ، فقد أصبح الرجل ومكتبته على الرصيف جزءاً من نسيج أيامي ، وللأمانة فهو إنسان يعلم الكثير من أسرار الليل ، فبيع الكتب للبعض القليل من هواة القراءة ليست غايته الوحيدة ، فهو يعرف تماماً كيف يصعد بأحاسيس روّاد المكان إلى حيث يُقيم الرقيّ عبر بثه لأغنيات أم كلثوم ، ولليل مع أم كلثوم رواية هي بطلتها الأولى ، وهكذا تجد المارّة يبادرون لحجز المقاعد المحدودة في مسرح الكشك على الرصيف ، وتذكرتهم فنجان من القهوة ، و عشق المكان ، وعبق الذكريات ، وأطراف حديث هادئ ينساب كالجدول وسط ضحكات تخترق حواجز كلّ ما في زماننا من عيوب ، لنُقرّ بحقيقة أنّ العيب فينا عندما لا ندرك أسباب السعادة الكامنة في تلك اللحظات التي نختلسها من وقع الحياة الصاخب ، فننشز بإيقاع مخالف للجسد موافق للروح ، وها هو الزمان يقف وقد أُعلنت براءته من تهمة اغتيال الفرح عن سبق إصرار ؛ فالقتيل حيّ تحت أنقاض القصف اليوميّ للذات ، والهدم المتكرر لكلّ المعاني البسيطة التي تختزل الغاية من الوجود .
وكانت نظرة خاطفة إلى ساعتي كفيلة بالإعلان عن نهاية ذلك الكرنفال الصامت ، فموعد الحظر الليليّ أصبح وشيكاً ، فالكورونا أدخلت أنفها بكل حشرية في كل جزئية من حياتنا ، فلا بدّ من العودة على مضض ، فكانت كل خطوة تأخذني بعيداً عن ذلك المسرح الثقافي على الرصيف ، وكأنها تُعيدني من حُلُم بعيد ، وكان صوت " السّت " يبتعد أكثر كلما ابتعدت أكثر ، فصرت أكثر قرباً من الواقع في ذلك المكان ، فالمارّة يتبادلون الاتجاهات مسرعين للعودة إلى بيوتهم ، والنسبة الكبرى منهم ترتدي كمامات الوقاية على استحياء ، وأصبحت على مسافة الصفر من الواقع عندما شاهدت طوابيراً طويلةً من الراغبين بشراء احتياطيّ كاف من مادة الخبز استعداداً للحظر الشامل يوم الجمعة ، وسط تنظيم من عمّال المخبز لمسافات التباعد التي أجبرت الطابور على الامتداد لمسافة طويلة ، ونداءات المصطفّين بعدم إغلاق المخبز ، فمع دقات العاشرة مساء كانت المحلّات التجارية قد أغلقت أبوابها التزاماً بأمر الدفاع .
وكأنه الستار وقد أُسدل على المسرح الكبير في ذلك المكان الذي عرفناه مليئاً بالصخب والحياة ، فلم يكن من عادته أبداً النوم باكراً ، فهو أكثر جبال عمّان السبعة شكساً ، وهكذا أرخت الحبيبة جدائلها بين الكتفين ، وقبّلها المجد لتغفو في عتمة الليل المخملية .