نودع اليوم بقلوب مؤمنة برحمة الله تعالى من وصفه موقع هنا البلقاء "بالبابا أندرو". فحقا كان الأب أندروا "بابا السلط" إذا أفنى سني شبابه فيها، تمتع فيها بروح الأبوة وروح الخدمة وروح العطاء وقام بتأسيس مركزٍ أصبح محط أنظار الكثيرين محلياً وإقليمياً وعالميا لتفرده وتميّزه في خدمة الإنسان الذي شاءت الأقدار أن يكون ضعيف البصر أو كفيفاً أو أصما.
الملف للنظر أن الآب أندور عبَّر عن هويته بلباسه البسيط المتواضع الذي يحمل رمز الرهبنة التي سلك فيها ومكرَّسَاً للخدمة كأحد خدام الكنيسة الإنجيلية الأسقفية العربية الشقيقة، ويتزين صدره بصليب خشبي هو عنوان التضحية والبذل والعطاء والمحبة، والملف للنظر أنه يندر أن لا يعرفه أردني أو لم يلتقي به، أو لم يسمع عن خدمته المتميزة والتي هي في صلب الحياة الإيمانية والمسيرة الروحية في خدمة الناس خصوصاً من فقدوا نعمة السمع والنطق خلقيا أو نتيجة مكروه ما، وممن ضعف بصرهم فأصبحوا يرون أشباه الأشياء.
"بابا السلط هذا" نذر حياته في خدمة الإنسان وتجلت خدمته في مدينة السلط الأردنية الشامخة جبالها والمطلة على أرض القداسة والفداء فلسطين، فعمل بصمت وهدوء وابتسامة لم تفارق محيّاه أبداً، وشعاره كان دائماً " الله كريم". وقد وامتدت خدمته لتشمل تأسيس "مركز سالم" في الجوفة في الشونة الجنوبية ومركزاً آخر في الكريمة في الشونة الشمالية، معتمداً قبل كل شيء على نعمة الله وكرمه وسخائه. فالخير وكل الخير موجود بيننا ولكن أهل الخير يحتاجون من يحرك قلوبهم ويستهويها لأن هناك تكمن سعادة الإنسان الحقيقية في العطاء وفي تقديم ما يخدم الإنسان ويخفف آلامه خصوصاً ونحن على أعتاب الإحتفال بعيد الشكر لله على كل نعمه وبركاته.
"البابا أندرو" قدم أروع صورة من صور الوئام الديني وخدمة من يحتاج الخدمة مسلماً كان أم مسيحياً، فالطفل أحمد الذي توفاه الله بعد حالة ميؤسة من سرطان في العين والجلد ممتداً لباقي جسده، وبعد أن تهرب ذويه من مسؤولياتهم، كما روت ذلك د. أمل نحاس، بقي ملازما له في مشتشفى السلط راكعا أمام السير مصليا وباكياً، وحمل صورته ووضعها في كنيسة الدير في المؤسسة بالسلط. فأمام الضعف والعجز البشري تقف القلوب حائرة تستمد القوة فقط من معطي الحياة الذي يفتح يده فيشبع كل حي رضى.
ووفاء لهذا الخادم الأمين الهولندي الأصل والأردني السلطي بالهوى والعشق قدم صاحب الجلالة الهاشمية اليوم السبت التعازي بوفاته بالحادث المأساوي الذي أودى بحياته، ونعاه خيرة مثقفي ورجالات الأردن ومنهم معالي محمد داودية حيث كتب اليوم مقالة في جريدة الدستور بعنوان " مسلم أم مسيحي؟!)، غير آبهين بمن ما زالوا يعمهون في جهلهم إن كانت تجوز عليه الرحمة أم لا، فأية ثقافة دخيلة هذه تغلغلت في مجتمعنا الأردني وتعمل على تمزيق نسيجه الأصيل والمتين الإسلامي المسيحي الذي لم ولن ينفك عن بعضه إلى يوم الدين لأن عامل المحبة هو أساس الأخوة والتعاون والخدمة. فالعين تدمع لفراق من قدم وضحى وبذل مهما كانت عقيدته الدينية أو قناعاته الإيمانية.
فاليوم كل السلط وكل الأردن ستترحم على ابنها وفقيدها الذي خلّد أسمى معاني الأخوة الأردنية التي تربط العائلات والعشائر مع بعضها البعض، وستُقرأ على روحه الصلاة الربانية كما الفاتحة أيضأ، فقد كان " البابا أندرو" كالريح العليلة التي جمَّعَت القلوب وحملت نسائم الفرح والأمل والرجاء، وكالنار التي بنارها ونورها أضاعت النور لكثيرين ممن ضعُف بصرهم وثقل سمعهم وتعلثم لسانهم، فكان كما جاء في المزمور المائة والرابع،" الصانع ملائكتة رياحاً وخدامه ناراً متقدة " ( مز 104: 4).
لتهنئ يا "بابا السلط" بإيمانك العامل بالمحبة أمام وجه العلي القدير، ولتتخلد ذكراك على مدى الأجيال في أعز المدن الأردنية، وليغطي جسدك الطاهر تراب السلط العابق بالكبرياء والعزة والشموخ.