وقعت عيناي وأنا أتمشى مساء أمس الإثنين في منطقة أم السماق الشمالي التي أعشقها على هذه الشجرة الكبيرة على رصيف إحدى البيوت الجميلة، وقد لفت انتباهي منظرها الخلاب وجمالها الأخّاذ بساقها الغليط البني اللون وأوراقها الخضراء. وما شدَّ اهتمامي هو قيدها الحديدي الذي يطوق ساقها حتى اخترق "جسدها" وشدَّ على خصرها محاولا خنقها، وهي تقف صامةً عاجزةً عن الصراخ وطلب الخلاص من هذا الطوق وهذا الأسرالحديدي الذي وُضِعَ بالأصل حرصاً من زارعها أن تكون بمنأى عن الأذى لكي لا تدوسها الأرجل، لكن مضىت الأيام والسنون ولم يتم نزع ذلك الطوق عنها، فشكل لها أسراً وقيداً التصق بجسدها واخترق جسمها.
لا أدري إن كان من قام على زراعتها ما زال على قيد الحياة أم توفاه الله، ولكن تلك الشجرة ما زالت تقف مقيّدّةً مكبلة مأسورة ولا أحد ينتبه إلى أنينها وإلى وجعها رغم أنها على جانب الطريق أمام كل المارة. حقاً، هل الشجر يتألم مثلنا نحن البشر؟ علمياً لا يوجد جهاز عصبي لدى النباتات لتصرخ مثلنا من شدّة الألم، ولو وجد لفعلت بألم وحسرة، ولكنَّ قيدها قد خنق وسطها واخترق لحائها وحاصرها فلم تقدر على الخلاص منه لوحدها لأنها عاجزة تماماً عن ذلك.
أمام هذا المشهد المرّوع وقفْتُ صامتاً متأملاً في مآلات الحياة تجاهنا نحن بني البشر، حيث وُضعّتْ حولَنا قيوداً وسلاسلَ لتكبح حريتنا وتوقّنا للحياة والنمو والعطاء، فتجدُنا نقف صامتين متألمين والناس وكأنها لا ترانا مع أنها تشاهدنا وتمر من جانبنا كل يوم ولكن لا تقشع الخناق الذي يلتف حول رقبتنا يوماً بعد يوم، فيذيبَ صوتَنا في داخلنا ويشتدُ احتكامُه حول رقبتنا ليخنق ما تبقى من حياتنا من جمال وحب وعطاء.
هذه الشجرة بالطوق الذي خنقها لا تختلف عن عالمنا اليوم، فهناك شعوب تطوِّقُها قيودٌ تعرقل سعيها نحو الحرية ونحو الحياة، وهذه القيود للأسف هي من صنع البشر وقد وُضعت لكي لا تسمح لأحد أن ينافسها أو يجاريها أو يتفوق عليها. لكن الحياة كما أرادها الله ليست كذلك، فلم نُخلق لنموت، بل خُلقنا لنعيش وليكون لنا الأفضل، ولنحيا حياة النمو والإخضرار والثمار، حياة النور والمحبة التي تعلمناها.
ودورنا في الحياة أن لا نمر أمام هذه القيود ونجتاز للجهة المقابلة، بل أن نفكها ونضمد جراحاتها ونصبّ عليها زيتاً وخمراً. هذا ما جاء أيضاعلى لسان إشعياء النبي "أن تكسر قيود الشّر وفك عقد النير واطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كل نير" ( إش 6:58). فدورنا أن نعمل على إزال هذه الأقفاص الحديدية التي تعيق نمو الحياة وتشوه كلَّ جمال وتسلب كلَّ حرية. والطوق لا يقتل صاحبة فقط، بل يخنق الحياة بأسرها، ودورنا أن نفك كل قيد وأن نكسر كل سلسلة تكبل الحياة والحريات التي خلقت معنا، فتنطلق حياتنا نحو عشق الحياة وجمالها.