يقول ابن خلدون في مقدمته : " إن التنازع عنصر أساسي من عناصر الطبيعة البشرية. فكل إنسان يحب الرئاسة، وهو لا يتردد في التنازع والتنافس في سبيلها، إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك ". ويضيف قائلا : " لقد أخطأ أرسطو طاليس عندما قال : " الإنسان مدني بالطبع "، والصحيح : " أن الإنسان وحشي بالطبع، ومدني بالتطبع ".
فمهما تظاهر الإنسان باللطف والمجاملة، وتباهى بترديد الأفكار السامية والمُثل العليا، فهو حيوان مفترس في أعماق نفسه. وما هذه المظاهر التي انخدع بها المفكرون القدماء، إلاّ غطاءا يستر بها الإنسان طبيعته الأصلية. فما أن تتحرش به واهدد شيئا من مصلحته أو منزلته أو شهرته، حتى تراه قد تنمّر عليك وكشّر عن أنياب الخصومة كما يكشّر الكلب العقور.
أما صموئيل بتلر فيصف الحياة الاجتماعية بأنها عبارة عن خيط وسكين. فالخيط يريط الناس بعضهم ببعض، والسكين تقطع الرباط بينهم. ومعنى هذا أن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو من تنازع كما لا يمكن أن يخلو من تعاون. كلا الأمرين متلازمين في حياة الناس. ولا يمكن أن يظهر أحدهما إلا ويظهر الآخر معه ليحدّ منه ويتمم وجوده. إن التنازع والتعاون هما دعامتا الاجتماع البشري، وقد اتضح لدى علماء النفس بأن الحب والبغض متلازمان في النفس كتلازم التعاون والتنازع في المجتمع.
ولا يمكن أن تقوم جماعة بشرية إلا ويكون حافز التنازع كامنا فيها. فالعائلة التي تعد نموذجا للتآخي بين الأفراد، تراها لا تخلو من تنازع رغم ذلك. ولا تكاد تمر فترة من الزمن على عائلة من العائلات، حتى تسمع صراع الخصام قد ارتفع من بين جدران بيتها.
وفي هذا السياق تذكرت القصة المعبّرة التالية، والتي وردت في أحاديث المساء للكاتب أدهم شرقاوي، سأوردها تاليا بتصرف :
" تصادق عقرب وضفدع على شاطئ نهر صغير. وفي أحد الأيام الربيعية المشمسة خرج العقرب من جحره، فشاهد جمال الشاطئ الآخر، وأراد أن يعبر النهر قاصدا الوصول إليه. كان يعرف بأنه لا يجيد السباحة لكي يجتاز النهر، فرأى صديقه الضفدع يقفز من مكان إلى آخر على حافة النهر.
اقترب من صديقه الضفدع وطلب منه أن يُسدى له معروفا بحمله على ظهره، والعبور به إلى الجانب الآخر من النهر، واعدا إياه برد الجميل له عند الحاجة في أي وقت لاحق. فقال له الضفدع : ولكني أخشى أن تلدغني وأنت فوق ظهري، فرد عليه العقرب : لن أفعل هذا، لأني لو لدغتك ونحن في وسط النهر، فسوف تموت ونغرق جميعا، ولا مصلحة لي في هذا الفعل.
فكّر الضفدع قليلا فيما قاله صديقه واقتنع بكلامه، فقرر أن يستجيب لطلب هذا العقرب المسكين. وبالفعل ركب العقرب على ظهر الضفدع وبدأ يعبر به النهر. وفي منتصف الرحلة بوسط النهر، أحس الضفدع بلدغة العقرب، إذ بدأ الشلل يسري في جسده من أثر اللدغة.
وقبل أن يفارق الحياة، نظر الضفدع بطرف عينه إلى صديقه المحمول فوق ظهره بدهشة، غير مصدق فعله، وسأله : لماذا فعلت هذا يا صديقي؟ فأجاب العقرب : إنها طبيعتي يا عزيزي . . لم استطع أن أغيرها حتى لمن صنع لي المعروف . . ! ". انتهى الاقتباس.
* * *
وهذا الفعل الذي قامت به الزواحف، ينطبق على كثير من أفعال البشر، الذين لا يكتفون بالتنكر والجحود لمن أحسن إليهم، بل يتعمدون رد الجميل بالإساءة إليهم، في أول مناسبة تخدم مصالحهم الشخصية. فيتناسى الأخ أخيه، والصديق صديقه، والقريب قريبه.
وبهذا يزداد التشاحن والتباغض وحتى القطيعة بينهم، ويحاولون الإساءة لمن أحسن إليه بصورة خفية أو ظاهرة، كلما لاح لهم ظرف الزمان أو المكان المناسب. وقد قال الشاعر العربي واصفا هذا الحال بقصيدة مطلعها :
ومن يصنع المعروف مع غير أهله * * يلاقي الذي لاقى مُجير أم عامر