إن من السذاجة ان نساوي تماما ما بين رمزية الشاب صالح حمدان الذي قطعت يداه في الزرقاء وبين رمزية الشاب بوعزيز الذي احرق نفسه في تونس، من حيث المسببات المباشرة والمفاجئات والمنعطفات السياسية التاريخية اللاحقة، على الرغم من أن أبعاد الحادثتين متشابهة. فالبعد البيروقراطي (المراوحة ما بين الالتزام الصارم بتطبيق القانون وهو المطلوب دوما، والتعسف باستخدامه حينا والاهمال احيانا) والبعد الاجتماعي عند ادنى شريحة من شرائح توزيع الدخل، كانا حاضرين في الحالتين.
من جهته، أيقظ بوعزيز واطلق شرارة المظلومية ضد البعد البيروقراطي. اما صالح حمدان فقد ايقظ هاجس الامن الاجتماعي والامن الاقتصادي المُهددين بسبب غياب فاعلية البعد البيروقراطي إضافة الى حضور المظلومية.
الا انه في اقليم يضج بالضجيج لا شئ مستبعد.
إذا رجعنا الى جذور المسألة نجدها قد ذكرت ووضحت في القرآن الكريم" وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفه. قالوا، اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". كما اورد القرآن خبر اقتتال ابني آدم، اللذين ضاقت عليهم الكرة الارضية حينئذ، في حين أنها تتسع حاليا لمليارات البشر، فاثبتت قصتهما ما تنبهت له وتخوفت منه الملائكة.
اذا، هذه هي طبيعة الانسان. ولضبط هذه الطبيعة "الشريرة بالطبع" نزلت الشرائع وتطورت التشريعات، وشيدت السجون وأُقيمت المشانق.
مطاردة الاشرار ستكلف الحكومة بأجهزتها الامنية المتعددة، واجهزتها القضائية المدنية والعسكرية جهودا استثنائية وضغوطا مرهقة ومبالغ مالية كبيرة لم تكن متوقعة عند اعداد موازنة ٢٠٢٠. مما سيتطلب اصدار ملحق للموازنه، اذا تعذر اجراء مناقلات مالية من البنود الكاسدة وهي كثيرة.
هذا في الجانب المدين من الحساب. أما في الجانب الدائن، فإن المخدرات لا تدخل الى السوق الاردني كمنح وهبات من خيرين. وإنما يتم استيرادها بالعملة الصعبة. لذلك، اذا تمكنت الحملة الامنية من وقف استيرادها، فإن الضغط على ميزان المدفوعات وعلى الاحتياطي من العملات الاجنبية سيقل، ويتعزز الدفاع عن قيمة الدينار.
إضافة الى ما تقدم فإن المخدرات لا تعد من بين السلع العادية normal goods بل inferior goods سلع سيئة. والمنفعة منها سالبه negative utility .
اي أن الانفاق عليها هو مجرد حرق للمال waste expenditureولا يدخل ضمن بند الاستهلاك الذي هو أحد مكونات الناتج المحلي الاجمالي. بل إن انفاق الاموال التي يحصل عليه الاشرار من المخدرات والخاوات هو في معظمه على سلع وخدمات مستوردة فاسدة. بالنتيجة سيتحول الانفاق السابق على السلع السيئة الى الانفاق على السلع الطبيعية مما يزيد النمو الاقتصادي.
عصابات الاشرار وبالذات المتعاملين بالخاوات يُرهبون التجار والمستثمرين المحليين والاجانب ويرهبون المستهلكين ليلا. هذا يجعل من الاردن بيئة غير ملائمة للاستثمار والعيش. وَيَعرف الجميع ان رأس المال جبان، ولذلك هو يبحث دائما عن ملاذات آمنة. عزوف المستثمرين وعدم اطمئنان المستهلكين، يؤثر سلبا على ايرادات الخزينة، من ضريبتي الدخل و المبيعات ومن رسوم الجمارك والمكوس( ما تتقاضاه دائرة الجمارك على المنتجات الصناعية المحلية).
الذين يستوردون المخدرات ويسوقونها ويتاجرون بها ويحرسونها هم قوى عاملة معطلة. اي انهم خرجوا من سوق العمل. لأن أعدادهم غير معروفة، والنشاطات التي يقومون بها ليس لها قيمة اضافية ايجابية قابلة للقياس والحساب .underground economy متعاطوا المخدرات ايضا يخرجون من سوق العمل لانهم لا يصبحون قادرين او صالحين للعمل المنتج. القوى البشرية هي موارد وطنية محدودة. ولذلك، كلما زادت القوى البشرية عددا ونوعية زادت فرص نمو الناتج المحلي الاجمالي، هذا اذا وظفت. من ناحية أُخرى فإن تعطل جزء من الموارد البشرية العاطلة بذاتها، والمعطلة لغيرها يعتبر عبئا على الاقتصاد بدل ان يكون اضافة اليه.
هناك علاقة موجبة بين متغير قيمة الدخل المتولد من السياحة القادمة والمحلية، وبين متغير الامن. السياحة هي الاخرى ستنتفع من تطهير البيئة الاردنية من المجرمين والافاكين من خلال زيادة اعداد السياح القادمين من الخارج الذين يجلبون العملات الصعبة مما يزيد الطلب على الدينار، وعلى الاستهلاك الذي يدخل في حسابات الدخل القومي، وخلق فرص عمل في قطاعات الخدمات.
السياح لا يهمهم فقط جمال الطبيعة ولا المواقع الاثرية في البلاد والمناطق التي يرغبون بزيارتها، وانما يقدمون الامن على ما سواه. ولذلك لا يتوجه السياح الاردنيين الى دول كمالي وتشاد والسودان وجنوب افريقيا وافغانستان في حين يقصدون تركيا والدول الاوروبية بعد أن تهاوت مناطق كانت جاذبة للسياحة الكثيفة كشرم الشيخ وطابا ولبنان اللتان دفعتا ثمنا باهظا بسبب فقدان الامن.
القطاع الزراعي، الذي شاء الملك، أن يوليه اهتماما استثنائيا في الاونة الاخيرة، باعتباره ألالية الوحيدة لتحقيق الامن الغذائي الذي كرر وركز حديثه عنه، لم يكن بعيدا عن البلطجية والزعران ومتعاطي المخدرات واللصوص. مما دفع الوف المزاعين والمستثمرين في الزراعة لترك القطاع برمته بعد أن زهقوا، بعد أن خسروا.
النتيجة اذا، أن الخسائر المالية والاقتصادية التي عانت منها الدولة حكومة وشعبا، تفوق بكثير نفقات مطاردة وسجن وضبط الاشرار.
الحملة الامنية على الاشرار ستشكل رافعة لشعبية الحكومة، بعد ان تهاوت وانزلقت الحكومات السابقة بأفعالها وقلة أفعالها الى مكبات التاريخ بامتياز. واخيرا، فإن الحملة الامنية ستحول اهتمامات الرأي العام لبعض الوقت عن هموم الكورونا وغيرها.
نأمل ان لا تكون هذه الحملة مجرد Ad Hoc Task Force, كما حدث قبل سنتين عندما خصصت دوريات لحماية المناطق الصناعية. المجرمون لا يختلفون عن الكثبان الرملية، ينتقلون بسرعة الى المناطق المنخفضة. الامن الوطني والامن المجتمعي أمن شامل ومتكامل وليس سدر هريسه، حتى يتم التعامل معه بالشريحة. الاشرار مثل الشوك لا يجز وإنما يجتث.