إنّ مفهوم "حرب الاستنزاف" برزَ عربيًا في (1/ تموز/1967) وحتى (8/ آب/ 1970) بين دول المواجهة العربية- الأردن وسوريا ومصر والمقاومة الفلسطينية- ودولة الكيان الصهيوني، ففي اليوم الأول من تموز عام 1967، انطلقت شرارة حرب الاستنزاف من معركةِ "رأس العش" التي تقع جنوب بور سعيد، حيث استطاعت القوات المصرية على مدى أربعةِ أيام من صَدِ هجوم العدو الصهيوني المدرع، ومنعتها من التقدمِ ناحيةِ منطقة "الكرانتينا" و" بورفؤاد"، وكبدّت العدو خسائر فادحة فى المعداتِ والأرواحِ، لتكون هذه المعركة بداية انحصار نكسة الأمة العربية أمام الكيان الصهيوني، والاهم أنّ حرب الاستنزاف تعتبر الحرب المظلومة والمنسيّة في تاريخنا المعاصر رغم أنها أمتدت على مدى (3) وهي الحرب التى أنتصرت فيها إرادةُ القتال والمقاومة لدى الإنسان العربي و الجيوشِ العربية.
بعد معركة رأس العش، توالت سلسلة رد الإعتبار للكرامةِ العربية، ففي يوميْ الرابع عشر والخامس عشر من شهر تموز عام 1967 قامت القوات الجويّة المصرية بغارةٍ ضدَّ المواقع الإسرائيلية قُرب القنطرة، وفجرت ودمرت تجمعّات الأسلحة والذخيرة التي جمعتها إسرائيل من سيناء، ثم جاءت العملية الكبرى حينما تمكنّت زوارقُ الصواريخ المصريّة قرب بورسعيد في الحادي والعشرين من شهر تشرين أول عام 1967 من إغراقِ المدمرة الإسرائيلية ـ إيلات ـ والتي كانت تعادل ثلث المدمرات الإسرائيلية.
وخلال حرب الاستنزاف خسرت إسرائيل ثلاثة أمثال ما لحقها من خسائرٍ بشريةٍ خلال حرب 1967، وفقدت خلالها (827) جنديًا وضابطًا، وإصابة (2141).
لقد أعترف قادةْ إسرائيل بخسارتهم لحربِ الاستنزاف أو ما أطلق عليها ( حرب الألف يوم ).
وقد قام عددٌ من المؤرخين العسكريين بتقسيمِ حربِ الاستنزاف ضد إسرائيل إلى عدة مراحل، وهي الصمود، والدفاع النشط، والاستنزاف، ومن ثم التحدي والردع، وانطلقت المرحلة الأولى "مرحلة الصمود"، و كان الهدف منها هو سرعة إعادة البناء، ووضع الهيكل الدفاعي للقواتِ العربيّة، في الفترة من حزيران 1967 إلى آب 1968.
واشتملت هذه المرحلة على بعضِ العملياتِ المهمة، التي كان لها تأثير كبير على المستوى المحليّ والعربي والعالمي ( معركة" رأس العش" ومعارك القوات الجوية المصرية، ومعارك المدفعية، وإغراق المدمرة البحريّة الإسرائيلية - إيلات-) ، إلا أنّ عروس هذه الحرب كانت معركة الكرامة الخالدة التي خاضها نشامى القوات المسّلحة الأردنية في 21/ اذار/1968 وحققوا فيها انتصارا أعاد للأمة كرامتها، وللجندي العربي هيبته.
وبالعودةِ إلى الوثائقِ الإسرائيلية عن معركةِ الكرامة الخالدة، تبينَ الاستخفاف الذي تعزز لديهم بعد حرب 1967 ، والثقة الزائدة بالنفسِ التي أوقعت إسرائيل في حَرجٍ لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي .
وتصف هذه الوثائق معركة الكرامة بأنها كانت أكبر حملات الجيش الاسرائيلي وأكثرها طموحًا، وكان ثمنها باهظًا، من حيث الخسائر البشرية وخسائر مادية في المعدات العسكرية دمرها نشامى الجيش العربي، ولأول مرةٍ تترك في الميدانِ وعُرضت كأحد عناوين الإنتصار الأردني المبيّن وذلك في مسيّراتِ النصر في عمان.
وبالاطلاع على كتابِ آشر فورات "قميص أبيض، قبعة سوداء"، والذي يتناول فيه معركة الكرامة، يذكر أنه بعد يومين من عمليةِ المقاومة الفلسطينية في قبرِ يوسف في وادي عربة والتي حدثت في 18 آذار 1968 والتي نتجَ عنها مقتل إثنان وإصابة ( 28) من الكيان الصهيوني. قام الكيان المُصطنع، بحملتين في وقتٍ واحد اطلق عليهما اسم "اسوتا" – أيْ سلامة- وكلف بها قيادة المنطقة الجنوبية في وادي عربة، والثانية "توفِت" - ’ أيْ اللظى- وكُلفَ بها قيادة المنطقة الوسطى، التي يتواجد أمامها منظومة لوائية من الجيشِ العربي الأردني، كما يتحدث الكاتب عن الأوضاع النفسية لعناصرِ الجيش الإسرائيلي، حيث يقول حرفيًا " سمع من المقدم أوري بار اون قائد كتيبة دبابات، يُحذر رفول قائد المنطقة الوسطى من أن الأرض في المنطقةِ الأردنية قد تكون مغمورة بالماء، ، في أعقابِ الأمطار، فقام "رفول" وتوجهَ إلى "بار اون" بشكلّ هجوميّ وقال له: "من أين أنتَ تعرف الكثير عن ظروفِ الأرض خلف الاردن"؟
فأجابه بار اون بأنه" عندما كان ولدًا يركبُ دراجته من القدس إلى أريحا ومن هناك إلى الغور، وقد تعرف عليه من على جانبي النهر"، فرد عليه بغضبٍ" كنت ولدا ولا زلت ولدا"..
وشدد على أنه إذا كرر تحذيره في نقاشِ قيادة المنطقة الوسطى فإنه" سيخيف كل المترددين وضعفاء الشخصية في قيادةِ المنطقة الوسطى" وذلك كونه يوجد الكثير من هؤلاء، - ومما يذكر بأن قائد المنطقة الوسطى عوزي نركيس يعد أحد أهم ثلاثة قادة في الكيانِ الإسرائيلي آنذاك، لكنه فشل في الكرامةِ وأُزيحَ عن قيادةِ الحملة، وتم استدعاء قائد فيالق المدرعات اللواء" يسرائيل طال"، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وتناول في كتابهِ عن القيادةِ السياسية في الكيانِ الصهيوني التي كانت متخبطة ومنقسمة، ويقول بأن "بار ليف" قائد الجيش الإسرائيلي في معركة الكرامةِ، في حين كان رئيس الوزراء "ليفي أشكول" مريضًا، ووزير الدفاع موشيه ديان مصاب قبل المعركة بليلة واحدة وهو يبحث عن آثار في القدس.
وكذلك فإنه يورد بعض المعلومات الهامة على لسانِ المدعو (غروتيوس) ملفات هيئة الأركان الإسرائيلية التي تصف المعركة ولدت في صيغةٍ ضيقة عندما كان رابين رئيسًا للأركان، وتفيد أن الجيش الصهيوني قد تدرب على اجتياز النهر في منطقة الأغوار وذلك قبل حرب 1967؛ مما يؤكد وجهة النظر بأنّ معركة الكرامة ليست ردة فعل لحدثٍ بل مخطط لها بالأصل، و يبين الكاتب أنه في 16 تشرين الاول 1967 رفع لرابين خطتي الحملتين ‘توفت’ و ‘اسوتا’. وانه في 13 كانون الاول 1967 تم تكليف لواء المظليين النظامي 35 ووحدة ‘سييرت متكال’ الخاصة بالتنفيذ الا ان الحملة الغيت، وخطط لها مرة أخرى في 12 اذار/1968 إلا أنها ألغيت مرة اخرى.
كما بينت إحدى الوثائق أنّ المعلومات الاستخبارية التي قدمها ضمن آخرين "غرويتس" رجل فتح السابق الذي كان مخبرًا لدى المخابرات الإسرائيلية يُعَرف القاعدة العسكرية في الكرامةِ ومحيطها.
وتبين الوثائق الإسرائيلية بأن غروتيوس وصل إلى الأردن عشية حرب الأيام الستة مع وحدةِ الجيش العراقي في إطارِ كتيبة الكوماندو 421 لجيش التحرير الفلسطيني وأنه فرَّ من كتيبتهِ، وتدربَ في سوريا في معسكرِ الحمّة، وتسللَ إلى الضفة الغربية. في حين يذكر رئيس شعبة الإستخبارات "أهرون يريف" أنه لم يكن هناك فشل استخباري، وقال "إن شعبة الإستخبارات حللت قبل إسبوع وبدقةٍ كل طرق العمل المحتملة للعدو بما في ذلك تلك التي لم يستخدمها عمليًا"،
وذكر أن التفاصيل التي كانت لديهم جاءت من مصدرين: فتحيون كانوا في الأسر واجتازوا تحقيقات، وعملاء وبوسعهم أن يقدموا لنا الكثير من المعلومات.
ولكن المشكلة مع هذين المصدرين هي انهما لم يكونا الأكثر دقة، فلم يتدربوا على قراءة الصور الجوية وكان صعبًا عليهم الإشارة فيها إلى الاهداف.
وقد بينت الوثائق غرور الجيش الإسرائيلي وغطرستهُ؛ حيث تورد ما قاله قائد المنطقة الوسطى - عندما قال : بالتأكيد يمكن أن تقع معركة حقيقية-، لا شك سننتصر فيها، ولكن من المهم الإنتصار بسرعةٍ وبسعرٍ زهيد.
إذا كان لنا في مثلِ هذه العملية عدد كبير من الإصابات، فإن كل العملية لا تبرر نفسها ولا تحقق أي غاية.
وبذات الوقت يتضح جليا الخوف من الجيش الأردني، حيث ذكر بارليف لقواتهِ: "الحرص على حركة قتالية وحذرة و البقاء في المجنزرات و يسمح للقائد وحده أن ينظر" .
وذكر لجنودهِ أن الطائرات ستعمل ضد المدرعات الأردنية و ضدَّ المدفعية الأردنية.
وبينت الوثائق المعلومات التي لديهم عن جيشنا العربي وعن الخسائر التي تكبدوها حيث تذكر بأنه يوجد امام الجيش الاسرائيلي فرقة اردنية فيها أربعة ألوية وكتيبة دبابات باتون، وعشر بطاريات مدفعية..
وعلى مسافة غير بعيدة قوة عراقية ومئات من مقاتلي المقاومة الفلسطينية.
لقد كانوا يعتقدون بكلِ وهّمٍ أنهم في نزهةٍ وسيدخلون بلا مقاومة، إلا أنه مع تعقدِ القتال واستمراره لأكثر من 14 ساعة اتضحت عند إحصاء مخزون المركبات المدرعة التي أصيبت شرقي النهر حيث سجلت وثائقهم "ابقيت هناك ثلاث دبابات سنتريون، واحدة منها محروقة؛ دبابة شيرمن محروقة، مجنزرتان لسرية ‘دوخيفات’؛ نصف مجنزرتين احداهما محروقة؛ شاحنة وجيب محروقان، وست دبابات اخرى اصيبت بشدة تم اخلاؤها".
في حين يذكر بار ليف رئيس الأركان فيقول: "الضربة التي وجهتها العملية الى الطرف المقابل ومساهمتها في صورة الجيش الاسرائيلي لدى الجمهور لم تحقق ما كان ينبغي" ويمكن ان تحققه، لولا الحالات الشاذة وهذا ببين صلابة ودور مدفعيتنا الاردنية وقال حرفيًا" حقيقة أن الطائرات هاجمت المدفعية ولكنها -أي المدفعية الاردنية - واصلت إطلاق النار وسلاح الجيش الإسرائيلي أُبقّيَ في الأردن "– تركوا خلفهم معداتهم - وهذا يعني أن الجيش الاسرائيلي كهيئة ليس معفيا من نقاط الضعف. والخلاصة (هذا كفيل بأن يملأ أشرعتهم بالريح ).
أي أن عملية" اللظى " قوبلت بنيران الجيش العربي وقذائف مدفعيته فذاقوا لهيب اللظى الأردني على يد جنودنا البواسل في جيشنا العربي، الذي يؤكد على أن هذا الحمى العربي الأصيل عصيٌّ على المخططات، وأن فيه شعبًا "مستعدًا للموت على أرضه”.
واهمية معركة الكرامة بأنها مهدت الطريق أمام اندحار إسرائيل في حرب الاستنزاف وهو ما نتج عنه بعد ذلك هزيمة الجيش الإسرائيلي في تشرين 1973،
وبفضلِ الشجاعة والتضحية التي أبداهُ الجيش الأردني عرف القادة الاسرائيليين حجم الورطة الكبيرة التي وقعوا فيها مما اجبر ر الجيش الإسرائيلي على الفرار والانسحاب ، والتراجع غربي نهر الاردن في عملية انسحاب بشكل غير منظم حيث تمكنت القوات الأردنية من قطع جميع خطوط الاتصال بين القوات الاسرائيلية المندحرة
رحم الله المجاهدين الأوائل ونشامى الجيش العربي وشعبه الوفي وقيادته الراشدة.