يروي ضابط المشاة العقيد المتقاعد المصاب خلف أبو هنيه التعمري مذكراته ، بشكل أسطوري حكايته قائلا : كنت ضابط مرشح ومهمتي جمع معلومات عن العدو أي ( استطلاع متقدم) لمعرفة أحواله وتحضيراته ونواياه الخبيثة التي يضمرها لنا من قبل المدنيين القادمين من الضفة الغربية . وتأكد لنا يومها نية العدو باجتياح الأغوار عن طريق محورين رئيسين جسر الأمير محمد ( داميا ) وجسر الملك الحسين . وكانت نواياهم احتلال جبال البلقاء وعمان والقضاء على العمل الفدائي ، حيث كنا على انسجام تام وإرادة حقيقة مع المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن الوطن وحمايته . وفي صبيحة يوم معركة الكرامة كنت أتواجد في العارضة بالمواقع الرئيسة ننتظر تحرك العدو ،وكنا يقظين ومستعدين للقائه بالرغم من إمكانياتنا المتواضعة .ولم نعرف طعم النوم ليلة صباح الخميس فرحا وترحيبا بلقاء العدو وصده على أعقابه . وفي الساعة الخامسة بدأ العدو بالقصف التمهيدي المكثف على قطعاتنا الأمامية في الحجاب عند جسر دامية والملك حسين والمغطس والكرامة ومثلث العارض ( المصري ) وشعشاعه حيث كانت هناك قوات الحجاب . في الطمونيه وسويمره ،وتصدت لجحافله قواتنا الباسلة في الحجاب والقطاعات الرئيسة والمدفعية السادسة والتاسعة والدبابات وكافة أنواع الاسلحه بمهارات فنية رائعة من قبل قادة الكتائب والفصائل والبطاريات بمعنويات عالية .وكنا نشاهد في المواقع الرئيسة حركة قواتنا وهي تتصدى لقطاعات العدو المهاجمة .ونراها تناور وتصدها قواتنا بمهارة عالية تفوق الوصف . وقد أبلت المدفعية السادسة بلاء حسنا وكذلك المدفعية التاسعة وبطاريات المدفعية المختلفة (25 رطل ) .ونرى الدخان يغطي عنان السماء من هول العراك بين الآليات الثقيلة . وقد رأينا إعطاب كاسحة ألغام كانت تتقدم أمام دبابات العدو .وقد تم عطبها تماما من قبل مدفعيتنا ودباباتنا . وكان الله معنا . وعلى أصوات الزغاريد جنودنا التي كانت تنطلق بحماس منقطع النظير فقد أبلت القطاعات الأمامية في منطقة الكرامة ومثلث المصري في التصدي للعدو بالسلاح الأبيض وجها لوجه واستطاعت قوات المشاة بالتعاون مع قوات المقاومة الفلسطينية في ايقاع خسائر كبيرة في صفوف قوات العدو واستولوا على بعض آليات العدو اذكر ( خمس ) دبابات صالحة فر منها إعدادها واسر بعضهم وقتل آخرين شوهدوا مربوطين في السلاسل بداخلها . كما تصدت قواتنا إلى جانب الفدائيين لإنزال للمظليين شمال بلدة الكرامة وقتل منهم أكثر من 100 مظلي صهيوني . ويضيف لقد تمكنا من إيقاف تقدم العدو على محور داميا المثلث المصري في الساعات الأولى من المعركة وتقهقر وارتبك ارتباكا كبيرا وكأنني أراهم الآن أمامي وهم منهزمون باتجاه فلسطين بشكل فوضوي .
وقال : لقد أصبت في حوالي الساعة العاشرة صباحا في أنحاء متفرقة من جسمي جراء قصف العدو المدفعي حيث تعرضنا إلى قصف بقنابل ( منثاريه ) أطلقها علينا العدو . ومع ذلك بقيت في ارض المعركة لمدة أربع ساعات أقاتل مع الجنود بالأسلحة التي لدينا ونتصدى للطائرات المغيرة وتمكنا من الدفاع عن مواقعنا بكل جدارة وشجاعة فائقة . وكانت طائرات العدو تخشى الانخفاض وضرب مواقعنا خوفا من تعرضها للإصابة وإسقاطها من قبل قواتنا . وجرى إخلائي سيرا على الإقدام حيث كتيبة عمر بن الخطاب التي كان قائدها المقدم محمد عوض العمري رحمه الله .الذي أرسل لي فريق إسعاف برئاسة الملازم أول احمد عبد القادر من بني حسن لنقلي إلى الكتيبة ورفضت حيث تابعت مسيري سيرا على الأقدام حتى وصلت قيادة الكتيبة التي تبعد عن مكان إصابتي ثلاث كيلو متر . وأثناء سيرنا أغارت علينا طائرات العدو ولكن الله سلم . بعد أن قمنا بمهارات عالية من المراوغة والتخفي حتى وصلنا لها إذ تم إسعافنا بواسطة سيارة إسعاف وكان معي مصابا الرائد محمد الأعرج العجوري مساعد قائد الكتيبة الذي اخذ يشجعنا رغم جراحه البليغة .ووصلنا إلى مركز إسعاف حاطوم حيث جرى إسعافنا إسعافا أوليا جيدا لمدة ساعة ومن ثم تم نقلنا إلى المستشفى العسكري في ماركا . وهناك بقيت أسبوعا وهم يعملون على إزالة الشظايا من جسمي واذكر أن الذي عالجني هو الدكتور سطام حابس المجالي الذي اشرف على علاجي . وكان بجانبي من الجرحى المرشح خالد . بعدها عدت بمعنويات عالية وأدركت أن الوطن يفتدى بالأرواح والمهج .والتحقت مباشرة بوحدتي ومارست عملي في قيادة جنودنا وعمل التحصينات اللازمة في مواقعنا الرئيسة .
ويضيف انه يتذكر كيف أن أهل الأغوار كانوا على درجة عالية من الانسجام والانتماء الوطني وحب جيشهم . حيث كانت تقوم بعض العائلات بهدم بيوتها الطينية وتقدم أعمدتها الخشبية إلى الجيش لغايات تحصين الخنادق الأمامية لحماية العسكر من قنابل العدو المنثاريه، وان دل هذا على شيء إنما يدل على حب أهل الغور لوطنهم ، حب مبالغ فيه ،كحب المسلمين أيام انطلاق الدعوة الإسلامية .
وما زالوا وكنا أثناء حرب الاستنزاف نسير في مزارعهم وينتج عن ذلك . أضرار فيها ولكنهم لم يتضايقوا أو يتذمروا وكانوا على أتم الاستعداد لمساعدتنا في تسهيل واجباتنا في الكمائن من اجل التصدي للعدو . لله در هذه الجباة السمر الوضاءة وخصوصا الرتب الصغيرة من رتبة نقيب حتى جندي ، هذه الرتب الزرافات التي تموت من الوطن ،ويقول منذ أن تخرجت في نهاية عام 1967م لن نرتح يوما وقد دخلنا أيام الاستنزاف وكان قرارا سياسيا عربيا على الثلاث جبهات ،الأردن مصر وسورية .وكانت الأردن الجبهة الأنشط والمطلوب التعامل فيها مع الفدائيين الفلسطينيين لرد اعتبار حيث كنا نشعر بالمهانة من هزيمة عام 1967 م عاشوا الموت مرات ولم تكتب لهم الشهادة وعاشوا لحظات استشهاد زملاءهم