ازدهرت في الاردن منذ اواخر عشرينات القرن الماضي ولحد الان مهرجانات الشعبوية واسواق المزايدات الوطنية مترافقة مع نماذج الخنوع التقليدية المتوارثة منذ عصور العثمانيين المتمثلة بتقديم العرائض والاستدعاءات والمناشدات، ولا يبدو في الافق أي مظهر لليأس منها رغم الاحباطات والفشل الذي انتهت اليه جميعها.
غالبيةُ تلك المهرجانات مبعثها تنافس تحالفات الطامحين والمتسلقين والمنافقين والمصلحجية على استغلال حالات تذمر حقيقية أو حالات تذمر ملفقة ، ونادرا ما كان أي من تلك المظاهر نحتا نحته الوطنيون.
لا بد للمتتبع لتلك المهرجانات والمزايدات أن يلاحظ، تحول غالبية المشاركين فيها وهم في العادة متسلقين ومنافقين ومصلحجيه وسحيجه الى مجرد درج، دعساتهُ مبنية من هاماتهم، يدوسه الطامحون باحذيتهم الملمعة.
صفة رئيسية اشتركت بها تلك المهرجانات والمزايدات أن الطامحين يؤمنون ان الشعب مجرد رَعيةٍ، لذلك يلزمه راعٍ، وأنه هو الراعي الانسب. لذلك يحملون شباباتهم الى السوق ويبدأ كل واحد منهم بالعزف على طريقته وحسب مهارته. وبالرغم من فوضى الحان الجوقة، الا أن الاغنام تفهمها، ولا تضجر منها، وتلتقط مَعِدُها الرسائل المُضمَنةِ في الانغام المبعثرة على شفاه الشبابات. تقتنع الاغنام بسهولة أن كل عازف من الرعاة يملك المرعى الاخصب والاقرب وجدول ماء يتلوى من أدنى المرعى الى أقصاه. مراعي خصبة وقريبة، أزهارها وحشائشها دانية، دون أن تتعب سيقانها بنزول الوديان وصعود الجبال والتحايل على الصخور والمنزلقات. فعقول الاغنام في مَعِدِها.
ولأن الاغنام دائما تُصدِقُ الرعاةَ، فإنها لا تتوانى عن التدافع نحوهم وفي النهاية تتوزع بينهم.
لحد الان لم تنجب الاغنام جيلا لا يُصدقُ الرعاة، ولا يَتبعِ المرياع والحمار، ولا يُدركُ جُبنَ كلاب الراعي. لذلك، لا تكتشف الاغنام الحالمةُ الحقيقة الا بعد أيامٍ تالية. حين يأخذها الرعاة مرات ومرات الى صحراء قاحلة ويظلون يتنقلون بها من سراب الى سراب.
نطالع ونشاهد بيانات القوائم والجبهات والتيارات والتوجهات واللقاءات ...الى آخر الالقاب والمسميات. كل منها تنافس الاخرى في رمي حبال السحر وفي تسويق السراب. تجمعات كثبانية لا يربط بين من يوقع على بياناتها "على العِمِيا" أيُ رابط جامع. يلهثون للانضمام للكثبان لمجرد ان تظهر اسمائهم في ذيل بياناتها، بعد الاسماء التي تجيد استخدام مساحيق التجميل، أو يُجملها السحيجةُ لإخفاء تجاعيد وشحوب وبشاعة وجوهها، كما يُبيضُ النّحاسُ، النُحَاسَ بقشرة سرعان ما تزول، ليعود الصدأ بالظهور تارة أُخرى. ذلك أن من طبيعة النُحاسِ أن يظل يصدأ لأنه ليس ذهبا.
يُشبهُ كل تجمع من هذه التجمعات في شكل مكوناته ودرجة ترابطها واندماجها كومة من الحصمة او الرمل او الزلط كما يسميه المصريون. هذ الكوم لا يصلح "كما هو " أن يُستخدمَ لبنة في بناء مثل طوبة من طوب المناصير، ولا كحجر قُدَ من محاجر معان القاسية. الحصمة تحتاج الى اسمنت وماء وخلط جيد حتى تتماسك حباتها، وحرارة لتتفاعل ولتجف وتيبس وتتصخر. واحيانا تحتاج الى قضبان حديد. من السهل ان تتبعثر وتتدحرج حبات كوم الحصمة حين تُحركَ بعود أي طرف من أطرافه.
معظم التجمعات التي سمعنا عنها كانت كالكثبان الرملية في صحراء الربع الخالي. لا صمغ يجمعها ولا اسمنت يمسكها ولا حديد يقويها. إسمنتها النفاق والمصلحة قصيرة الامد والتآمر من بعضهم على بعض والتدافع والتدافش للنميمة بالرفاق مستنيرين بالنظرية الصفرية zero sum game. للاسف لم يُنجب الاردن لحد الان عيسى المسيح، ولكنه وَلادٌ لنماذج يهوذا الاسخريوطي.
في هذه التجمعات "الهبائية" كل حصاة في الكوم مهما صغرت، تريد أن تكون الرابح الوحيد ولا مانع ان يخسر الجميع.
عندما تغيب المبادئ، والثوابت والصيغ القانونية والاخلاقية عن اي تجمع او قائمة او تيار او جبهة او ملتقى تكون مجرد هباءٍ متطاير في كافة الاتجاهات أو كثيب رملي، يتناثر مع اول هبة ريح.
عندما تتجاهل هذه التجمعات الحقائق الناصعة، أو تتغافل عن مُسببات التذمر أو لا تفهمها، وتتلهى بمداعبة النتائج أو نهشها بأسنانها تتحول الى سباق فئران. عندما تَجبُنْ فإنها تغش. ومن غش مواطنيه ليس منهم. ومن حدث فكذب، وإذا اؤتمن خان فهو منافق.
أمام هذا الواقع المُزري، يفضل البعضُ العزف المنفرد. يرونه سيد الالحان وأجملها واخلصها واطولها عمرا. عزف منفرد على مسرح يحضره من يفضلون زراعة الاشجار حتى وإن طال انتظار موسم قطف ثمارها على زراعة الشعير رغم قرب موسم حصاده. نعم العزف المنفرد لا يصنع بالضرورة ثورة، ولكنه شمعة تبدد بعض الظلام وتشجع على المسير وتمكن من التنبه للعقارب والافاعي والحفر والمطبات في الطريق. قد يكون العزف المنفرد اضعف الايمان ولكنه يظل محاولة مخلصة لتغيير المنكر.