ما بين الأمس واليوم أياًما وأسابيعَ وشهوراً وسنين، تَضعُف معها الذاكرة وقد تُمحى إن لم تَجِدْ من يوثِّقَها ويؤرشِفها لتنتقل للأجيال القادمة، مشكِّلةً بذلك إرثاً حضارياً يجبْ أن يُستفاد منه ويُبنى عليه، لا أن يُمحى من الذاكرة ويذبُل مع الأيام.
والدول الناجحة هي الدول التي تحفظُ أرشيف وتاريخ وتراث بلادها، لأنه كنز ثمين بناجاحاته واخفاقاته، بإيجابياته وسلبياته، ببياضه وسواده، لأنَّهُ مصدرٌ هامٌ للتعلّم من أخطاء الماضي لتصحيحها، وللبناء على ما تقدّم وأثبتَ أنَّه صالحٌ لإكمال مسيرة الوطن وتقدمه وإزدهاره. وأخطر شيء في الحياة هو محيُ ذاكرة الشعوب وتاريخها وتراثها، فيفقد بذلك الجيل الجديد صلته بالماضي فيصبحَ غريباً عن حاضره ومتغرباً عن ماضيه وكأنه لا جذور له ولا تاريخ ولا أصل. وكما نعرف من علوم السياسة بأنَّ خبرات الشعوب وتاريخها هي جزء لا يتجزأ من تشكيل فكرها السياسي، فحتى مفهوم الديموقراطية ليس مفهوماً مجرّداً إذ لا تعمل الديموقراطية في فراغٍ بل تلبس ثوب بيئتها، وتسهمُ تراكم خبرات الماضي في تعزيز أفضل أنواع الديموقراطية المناسبة لبيئتها وسكانها.
وما لفت نظري هو الكاتب والمؤرخ المبدع أخي وصديقي عمر محمد نزال العرموطي صاحب موسوعة "عمان أيام زمان" بأعدادها التسعة بالإضافة إلى مؤلفات أخرى عديدة، وقريباً سوف يحتفل بمؤلفه العاشر عن حبيبته ومعشوقته عمان،التي عِشْقُهَا سِحْرِيٌ لكُّلِ عمّاني يرتبط بها ويحيا على أرضها ويتنسم جمالها وفنَّها وبهاءَها الذي تغزّل بها الشعراء والكتاب والأدباء والفنانون والموسيقيون.
وفي صورة نشرها المؤرخ العرموطي ما بين الأمس واليوم هي صورة للجسور العشرة في وادي الرمم، صورة من العام 1918 وصورة أخرى حديثة في العام 2021، وشتان الفرق بينهما، والسبب في ذلك هو جهود أمانة عمان الكبرى المبذولة في الحفاظ على إرث وتراث الآباء والأجداد والتراث الحضاري العالمي الذي تنعم به بلادنا والذي يَخفي في طياته كنوز معرفية وفنية وفلسفية وجمالية وَجَبَ الإستفادةَ منها والبناء عليها، فالشجرة التي تفقد جذورها تنشف وتموت، ولا تقدر أنْ تصمدَ أمام عواصف الحياة ورياحها، فالثبات هو لمن يحتفظ بذاكرة المكان والزمان ويستفيد من عظمة الماضي وعبقه ليبني عليه بنياناً فريداً مميزاً، مستلهماً من عبق الماضي وأصالته وجودته.
أخي عمر العرموطي، يا من أعطيت درساً في توثيق تراثنا الشفوي وأحداث وأقوال وأفعال أسلافنا، والتي تُعتبر نبراساً للأجيال الحالية والقادمة والإفتخار بتاريخنا المجيد وتضحيات أسلافنا الذين نحتوا بالصخر ليقدموا لنا بناءً أفضل وحياةً أيسر وكرامة لا تنثني. إنَّ أعمالك وإنجازاتِك هي مفخرة لنا جميعاً وللوطن الأردني وللقيادة الهاشمية وهي نموذجٌ يحتذى به للسير في نهج توثيق كلِّ شيءٍ له علاقة بالشأن العام ومسيرة الوطن، فلا ندري متى تكون الحاجة للرجوع إليه والإستفادة منه لإعلاء شأن الوطن والنهوض بها.
بارككم الله سيدي .. وسدد على طريق الخير خطاك.. والرب يبارك جلَّ أعمالكم.