في بداية ٢٠٠٧ وفي صباح يوم بارد جدا دخلت مكتبي في جامعة آل البيت في المفرق، ليرن هاتفي ما بين محاضرتين وعلى غير العادة، وإذا به على الجال الآخر د. إلياس سلامة إستاذي في الماجستير ومشرفي المحلي في الدكتوراة في ألمانيا، ويطلبني للقاء به بأقرب فرصة في مكتبه في قسم الجيولوجيا في الجامعة الأردنية.
أنهيت يومي، وإنتظرت الخميس الذي أسافر فيه إلى عمان لأستقل باصات الجت إلى العقبة، فأقضي نهاية الأسبوع مع والدي رحمهما الله تعالى ومع اخوتي.
خصصت صباحا كاملا للقاء أستاذي العزيز البروفيسور سلامة؛ أستاذ علم الجيولوحيا والمياه، والذي وبعد الترحيب وصناعة القهوة في مكتبه، قام بفرد بعض الخرائط والمؤشر عليها بخطوط وألوان كثيرة، ويبتسم قائلا: "إنها طفوح البازلت التي جففت منابع بحيرة اللسان التاريخية العملاقة، وليس أسباب تكتونية أو أسباب تتعلق بالتغير المناخي".
ويعد هذا بالنسبة لي ولغيري من الجيولوجيين أمرا لم نعهده من قبل، لا بل ونعده ضربا من الخيال.
أعلمني البروفيسور سلامة بأن النماذج العلمية لديه تشير إلى أن إنكماش بحيرة اللسان التاريخية العملاقة العذبة لتشكيل البحر الميت بشكله الحالي، هو نتيجة لتقلص مساحات منطقة أحواض الرفد المائية السطحية المغذية للبحيرة، من حوالي 157000 كيلومتر مربع خلال العصر البليستوسيني المتأخر إلى 43000 كيلومتر مربع حاليًا.
وتابع سلامة بأنه نتج إنخفاض في منطقة مستجمعات المياه السطحية، وذلك نتيجة ثوران وانتشار تدفقات البازلت في جبل عرب الدروز، والتي أدت إلى جانب الترسب الناتج من الحطام الصخري السميك والحصى إلى شغل نظام الصرف الذي كان يغذي بحيرة اللسان العذبة العملاقة.
كما وقد أدى ملء نظام الصرف السطحي بالبازلت والرواسب الغرينية -والذي كان قبل الثورات البركانية وتشكل طفوح البازلت يغذي بحيرة اللسان-، إلى منع التدفقات المائية والسيول الوافدة من الوصول إلى البحيرة.
ثم تبعا لذلك شهدت المنطقة نشوء قيعان محلية على طول حدود تدفق البازلت، مثل واحة الأزرق وحوض السرحان وواحة دمشق والعديد من البرك المائية، إضافة لآثار التشققات الطينية، وتشكل سماكات جيدة من المتبخرات ذات الجدوى الإقتصادية العالية كالجبس ورواسب الطين بين طبقات الطفوح البازلتية، والتي جاءت عبر فترات وعلى مر آلاف السنين.
بعد أن قمنا ببناء النماذج والعمليات الحسابية على التدفق وموازنات المياه السطحية ومطابقة المعطيات وربط النتائج وصياغة البحث، تم مناقشة المخرجات ليظهر للعالم بأن منطقتنا قد شهدت قبل نحو ١٥٠ ألف عام حدثا عظيما لم يمر مرور الكرام، فيتم ربط الهجرات الإنسانية وإعادة توزيع السكان في المنطقة فيما قبل التاريخ، وكذلك ربط التغير المناخي المحلي وتغير أنماط وأشكال التنوع الحيوي، بإنكماش البحيرة العملاقة التاريخية العذبة، ليحل البحر الميت ذات الملوحة العالية في قاعها.
كانت البحيرة العذبة عملاقة جدا، ويبلغ مستواها حوالي ٢٠٠ متر تحت سطح البحر، وتمتد بشكل طولي من بحيرة طبريا شمالا إلى ثلث وادي عربة الحالي، وقد شكلت نظاما بيئيا فريدا بتنوعه الحيوي، وقامت حولها موائل وحضارات إنسانية تاريخية، وأدت تدفقات وثورات البراكين والطفوح البازلتية شمال وشمال شرق الأردن إلى سد شبكة مصارف المياه السطحية التي تغذيها، لتنكمش البحيرة بالتبخر على مر بضع مئات من السنين، وينتج البحر الميت الحالي، والذي ينحسر اليوم كذلك لأسباب عدة.
ربط النتائج مع التتابع الزمني للأحداث بأعمار صخور البازلت وأعمار رسوبيات بحيرة اللسان التي إنكمشت، كلها كذلك تشير إلى التوافق جيولوجيا لتثبت صحة البحث ومخرجاته.