قد لا يتشكل تكوينك العام بالصدفة, هناك عوامل بيئتك المحيطة التي تصنع منك ما أنت عليه , التأثر يتسرب إليك من كل ماحولك من علاقات ,ما تخزنه مما تسمع وترى , من تلك اللمسات البسيطة لمحيط فعل الحياة.
كانت مزرعته على حدود أرضنا التي يستأجرها لزراعة الخضار الموسمية, كانت عائلتنا تقضي جل الوقت هناك في أيام نهايات موسم الحصاد لجمع الغلال, نجده عند البئر عندما نذهب لجلب الماء , يقبلنا, يدللنا و يمازحنا كأطفال , يساعدنا في تعبئة الجراكن ثم يرفع تلك الأجساد الصغيرة كي تتوازن فوق ظهر الحمار.
كانت أول رسالة قرأتها منه أرسلها لجدي تتحدث عن مساحة الدونمات والإيجار, بالكاد أعرف القراءة , أقفز من جملة لأخرى, فالخط خط طبيب و القارئة تتهجى الحروف على باب التعليم.
مايهمني ماكنت أسمعه عنه أنه وزير صحة , وأنه كما يقول جدي " تتعب وانت تقول عنه رجل" لقد اعترض على الحكومة فاستقال , نعم استقال بمحض إرادته من منصب تزحف إليه الناس زحفا, لم اكن أعرف لماذا استقال , المهم أنه رجل يقول كلمته دون أن ترتعد فرائصه .
ذهبت ذات مرة مع جدتي التي بدأت تشتكي ضعف بصرها إلى عيادته في إربد, وأين نذهب ؟ هذا ابننا وطبيبا الذي لا نثق بغيره بل ولا ندفع له كشفيات .
شعرت أن كل فقراء البادية هناك, رحت اتحرك بحرية في كل زاوية, أعبث وألمس كل الأجهزة،لقد أمسكت بالسماعة وقلبتها بين يدي, اقف على الكرسي واقفز ... عادي هذه عيادتنا ومن سيردني عن فرحة انطلاق الاطفال في الأماكن الغريبة....." مية مرة قلت لك يا أم سالم اتركي " اللعوط" مو زين للعيون"... شلون مو زين وأنا من انخلقت احط "لعوط "؟!.. شساوي ..عاد إنتو البدو ما تردون ,,بكره تعميك الحوايج .. في عندك ميه زرقا.....
مرت الأيام وظل ماثلا في حياتي , بصدقه وحقيقيته ولطفه وقوة شكيمته ونبله و إنسانيته التي لا تحدها حدود ... إنه صاحب قولة الحق , الطبيب البدوي الذي كان وزيرا للصحة واستقال لأنه لا يغض الطرف عن ظلم أو تجاوز أو مخالفات ... إنه الشيخ عندما كان الشيخ صاحب جولة وصولة في ميدان الحق .... إنه ممن شكلوا وجداني على أطراف الصحراء ... و يقال ويكتب عنه الأكثر والأكثر ولا نفيه حقه ومكانته في قلوب من عرفوه وأحبوه ولمسوا مدى تأثيره .... لم تمر في حياتي مرورا عابرا إطلاقا .... لروحك الرحمة ولطيب ذكراك الخلود .... الدكتور وزير الصحة والبرلماني والإنسان النبيل قبل وبعد كل المسميات .. إنه القلعة العصية على الريح.... على إقتلاع الفكرة... طراد سعود القاضي.