فقد سبق لروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، أن ألحقت بالإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت هزيمة نكراء، بعد أن أنهكت جيشه الغازي الثلوج وموجة البرد القارسة، وهو ينتظر الاستسلام الذي ظل عصيًّا، وتكرر الأمر في الحرب العالمية الثانية حين وقف هتلر عاجزًا عن الاستمرار في حربه ومحاولته احتلال روسيا بسبب الطقس البارد والثلوج المتراكمة التي أعاقت تقدم الجيش الألماني وأجبرته على الاندحار أمام ما صار يعرف بالجنرال الأبيض.
اليوم يطل الجنرال الأبيض في المواجهة الجديدة بين أوروبا وروسيا؛ ففي الوقت الذي تتواصل فيه العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، تستعر حرب الطاقة التي تعتمد عليها روسيا، كوسيلة لكسر، أو إضعاف الحصار الذي يفرضه الغرب عليها.
الجولة الأولى من المواجهة بين موسكو والدول الغربية، أظهرت أن روسيا حققت نجاحا نسبيا لاحتواء نتائج الحصار والمقاطعة الغربية، بل إنها نجحت في تفتيت وتشتيت المواقف الأوروبية المتصلة بهذا الأمر.
وعلى عكس العقوبات السابقة التي كان الغرب يفرضها على روسيا، ومن أبرزها وأهمها العقوبات التي فرضت على خلفية ضم شبه جزيرة القرم، فإن تلك العقوبات التي أدت إلى ضغوط قوية على الروبل الروسي، وأربكت العمل الاقتصادي والتجاري لروسيا مع شركائها في الخارج، أظهرت أن الاستراتيجية الغربية لا تحقق النتائج التي كانت متوقعة، ولم تأخذ بعين الاعتبار أو بالجدية الكافية إمكانيات موسكو في فرض عقوبات مضادة.
فالغرب بنى إستراتيجية العقوبات الجديدة على أن موسكو لن تستطيع الاستغناء عن وارداتها من بيع الغاز والطاقة لأوروبا، وأنها ستضطر إلى الرضوخ لشروط الغرب إذا ما أرادت الاستمرار في التمتع بالعوائد المالية الغربية، لكن موسكو فاجأت الجميع بما لم يكن متوقعا، وأنها لا تملك إمكانيات الصمود فحسب بل إنها تملك زمام المبادرة، ولديها رصيد مالي من العملات الأجنبية يوفر لها قدرة الصمود فترة طويلة أمام الحصار والعقوبات.
وإلى جانب ذلك، كشفت العقوبات المضادة التي واجهت بها روسيا الحصار الغربي، مدى هشاشة أمن الطاقة الذي تعاني منه أوروبا، كما كشفت في الوقت ذاته إمكانيات روسية لم تكن بالحسبان، فلا أحد توقع أن تلجأ موسكو إلى تخفيض صادراتها من الطاقة إلى أوروبا في ظل الأهمية النسبية لمواردها من بيع الغاز وقرب السوق الأوروبية وسهولة النقل.
اختارت موسكو أمرا لم يفطن له أحد أو يتوقعه الأوروبيون، وتمثل في إصرار البائع الروسي على البيع بالعملة الوطنية (الروبل)؛ ما أدى إلى ارتفاع قيمة العملة الروسية إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، كما فتحت موسكو المجال أمام بيع الطاقة الروسية في أسواق آسيوية كالصين والهند وبالعملات الوطنية لهذه الدول، في خطوة تسهم في كسر احتكار الدولار الأمريكي كعملة للتجارة العالمية وخاصة النفطية.
ونجحت موسكو كذلك في إقناع مصدري النفط، أو في استغلال ظروف السوق التي لا تسمح بزيادة الإنتاج، لمنع تدهور أسعار الطاقة من جهة أو تخفيض أسعارها، وأيضًا قطع الطريق أمام توفير بديل للغاز الروسي في السوق الأوروبية.
اليوم، ومع الاستعدادات لدخول فصل الشتاء القارس في أوروبا، وبعد عدة أشهر من بدء العقوبات الغربية والإجراءات الروسية المضادة لها، يبدو أن روسيا لديها القدرة على الصمود فترة أطول مما كان متوقعا..
وكان الإجراء الذي اتخذته موسكو بوقف ضخ الغاز الروسي عبر الأنبوب العابر لأوروبا بحجة إجراء صيانه أو إصلاح أعطال فيه، خطوة روسية محسوبة باتجاه محاولة إفشال العقوبات الغربية.
وبينت حالة الارتباك التي واجهت بها الدول الأوروبية الخطوة الروسية أن المواجهة ستستمر أكثر مما هو متوقع، وأن شتاءً باردًا ينتظر الأوروبيين الذين يستعيدون حقبة التقنين في استخدام الطاقة ويواجهون ارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار، ونذر أزمات تتجاوز الأزمات التقليدية المعروفة.