تحكي رواية "سجين الزرقة" للكاتبة العُمانية شريفة التوبي، عن قضية مجهولي النسب، والموقف الاجتماعي من هؤلاء الأبرياء الذين يدفعون فاتورة وجودهم للحياة دون أن يكون لهم يدٌ في ذلك.
وترصد التوبي في روايتها التي صدرت طبعتها الثالثة عن "الآن ناشرون وموزعون" بالأردن مؤخراً، الجوانب المختلفة لهذه المشكلة الاجتماعية التي يتحمّل تبعاتِها أشخاصٌ لا ذنب لهم، والتي تمثل ألغاماً موقوتة بالنظر إلى ارتفاع نسبة مجولي النسب وتزايد أعدادهم في المجتمعات العربية.
تسرد التوبي الأحداث بلغة تقريرية سلسة، وأحياناً بتوصيف رومانسي، ولا تتوقف عند الموضوع بوصفه مشكلة اجتماعية فحسب، بل تناقش القضية من زاوية فلسفية وإنسانية بوعي الشخصيات التي لا تستسلم للواقع الذي يرفضها ولا يعترف بها، بل تكافح لإعطاء معنى آخر للحياة.
وفي تفاصيل الحكاية، تتعرض فتاة قاصر لاعتداء من زوج أمها، وتحمل بطفلها سفاحاً وهي على مقاعد الدراسة، ويُحكم عليها بالسجن، ويَفتح المولود عينيه في عتمة السجن، ثم يُنقل لدار الأيتام حيث يتشكل وعيه هناك، وفي المدرسة يكافح للنجاح، وعندما ينخرط في العمل، تبدأ الصدمة التي تطحنه وتفجر رأسه بالأسئلة عن اسمه وعائلته.
وتتعمق المأساة حينما يتعرف البطل على الفتاة التي يرى فيها الحبيبة والأم في آن معاً، ويقف أمام الأبواب المغلقة التي يسدّها المجتمع في وجهه بالصمت المريب والنظرات التي تمزق جسده وروحه.
من مناخات الرواية: "لم تكن عاطفتي لمريم مجرد تجربة، فأنا لم أكن بحاجة للتجارب، ولم أكن بحاجة لأن أختبر عاطفتي في علاقتي بها، ولم يكن انتقاماً لمشاعر مهزومة داخلي في شوقي لأمي، كنت بحاجة إليها بمقدار حاجتي لأن أحيا حياة طبيعية كباقي البشر" .
ولم يكن أمام البطل سوى الاستجابة لإلحاح صديقه الذي عاش وأياه في دار الأيتام، فيقنعه السفر لأمريكا التي سبقه إليها، ويقول له: "هنا لا يسألون مَن أنت، وابن من، ولمن تنتمي"، فيقرر السفر بعد أن تلقّى الصدمة الثانية من والد حبيبته التي ذهب لخطبتها فلم يسمع سوى الصمت ولم يقابل سوى بالخذلان والنكران.
في الرواية التي تقع في 350 صفحة، تستخدم الروائية عدداً من التقنيات والأساليب التي تخفف من ثقل الحكاية الإنسانية ومأساويتها بتعدد الأصوات، واختيار مستويات الحكي بتوظيف اللهجة المحكية بحسب الشخوص ومستوياتهم المعرفية لتحقيق واقعية الخطاب الروائي، فضلاً عن تنويعها بين الحوار والحلم والتداعي والرسائل والوصف، واستعارتها لكثير من الأغاني التراثية والنصوص الشعرية لمحمود درويش وأغاني فيروز التي تلون النص وتغْنيه، وتكشف عن وعي الشخوص.
ولأن رواية "سجين الزرقة" تقع في عدد من الساعات، هو مقدار زمن الرحلة، فإن الروائية تعمد للمناورة على الزمان بوسائل الحلم والزمن الخطّي والاسترجاعي الذي يتيح للشخوص سرد حكاياتهم بعدد من القصص التي جاءت في خطّين متوازيين؛ الأول يمثله البطل الذي يستعيد حياته في دار الأيتام مع صديقه الذي وُجد في كرتونة أمام مستشفى ولم يبلغ من العمر سوى يومين. والخطّ الثاني تمثل الأم التي تروي حكايتها في السجن مستعيدة العديد من الحكايات لرفيقات لها وقعن في ما وقعت فيه، وعانين ما عانت.
ومع كل تلك العقبات والصدمات التي تواجهها الشخوص الروائية، إلا أن الروائية التوبي تكتب واعية لخطورة القضية ومتمسكة برسالة الروائي، وتبقى متفائلة في رهانها على الأمل الذي يصنعه شخوص روايتها في تجاوز الماضي، فهي تغلق حكاية الأم بنجاحها في العودة للدراسة وزواجها من رجل ناجح ومتفهم لماضيها، بينما تبقى حكاية الابن مفتوحة على الأفق في اختياره السفر رغبةً في الانفصال عن ماضيه ليبدأ حياة جديدة.
تقول الناقدة الجزائرية د.نوال بومعزة عن الرواية إنها عمل درامي اجتماعي "ارتكز على ثيمة معاناة الذات المنقهرة، وانفتح على قضايا المجتمع العُماني فيما يخص المرأة ضحية زنا المحارم"، مضيفة أن الكاتبة تناولت هذه القضية بتوظيف ساردَين في الحكي، وأدارت توزيع نتائج تلك الجريمة على الطرفَين المتضررَين والأكثر ألماً: الأم وابنها. أما الكاتبة العمانية د.فوزية الفهدية فتقول عن "سجين الزرقة": "هذه الرواية ليست محض خيال سيتلاشى بنهاية الرواية، بل إن أحداثها ستجعلك سجيناً للزرقة، ومكبَّلاً بأفكار كالقضبان الحديدية؛ كي لا تستطيع الفكاك من التعاطف مع الشخصيات المرويّة، إلى أن تهديك تجربةً وخبراتٍ سابقة ستحررك للأبد. فهي رواية أدب واقعي اجتماعي، توثّق العلاقة بين العمل الأدبي وحكايات الواقع، في بناء درامي مليء بقصص تعرّي بعض الأحداث، وتفكّك القناع عن القصص المخبوءة داخل النفوس وخلف المنازل والقضبان". من جهتها، تقول الناقدة العمانية د.فاطمة العلياني: "لم تختر شريفة التوبي عنوان هذه الرواية اعتباطاً، فثمة قصدية في ذلك تتجلى في متنها ومدار حكايتها، إذ تكشف لنا الرواية إحدى قضايا المسكوت عنه في المجتمع، والمتمثلة في فئة مجهولي النسب، والصراع النفسي الذي يعيشه البطل مع كل من يحيط به، منذ صغره، وحتى نهاية فصول الرواية. وخلال السرد، تشد الكاتبة مسار حدثها الروائي عبر زمنية متمساكة، تتخلّلها مطبّات اجتماعية تثقل كاهل البطل في علاقته بكل من يقابلهم، لتكتب له نهاية لا قرار لها".
أما الناقد الجزائري وليد خالدي فيقول إن هذه الرواية "تحمل في جوفها مأساة حقيقية بثيماتها التي تدور أحداثها حول موضوع مجهولي النسب أو أبناء الخطيئة، وما يعانون منه من صور الاغتراب وحالات التردد والتخبط والممارسات العقيمة". ويضيف أن البطل "راشد" هو أحد هؤلاء الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم محاصرين وسط جريمة لم يتسبب بها، فعاش تجربة مريرة بحثا عن أمه ليضمن لنفسه مكانة داخل مجتمعه.
ويقول الكاتب الأردني موسى أبو رياش إن "سجين الزرقة" رواية "مؤثرة مشوقة ،جريئة، مميزة في موضوعها ولغتها وسردها وفنياتها، ترسل رسائل شتى في جميع الاتجاهات، وتطرح قضايا مسكوت عنها، تنتظر البحث والمعالجة، وتثير أسئلة ما زالت عالقة، وهي تستدعي مقالات ودراسات في جوانب مختلفة منها، وما نهايتها المفتوحة إلا دعوة للتأمل والتفكير وإعادة قراءة المشهد من جديد ومن زوايا مختلفة".
ويقول الروائي الأردني صبحي فحماوي إن التوبي تسرد الأحداث في هذه الرواية بلغة تقريرية سلسة، وأحيانا بتوصيف رومانسي، ولا تتوقف عند الموضوع بوصفه مشكلة اجتماعية فحسب، بل تناقش القضية من وجهة فلسفية وإنسانية بوعي الشخصيات التي لا تستسلم للواقع الذي يرفضها ولا يعترف بها، بل تكافح لإعطاء معنى آخر للحياة.
يذكر أن التوبي أصدرت لها منذ العام 2014 مجموعة كبيرة من الأعمال من بينها: "المقعد شاغر"، "نثار"، "سُعاد.. رسائل لم تصل"،"سجين الزرقة"، "انعكاس". وفازت روايتها "سجين الزرقة" بجائزة الإبداع الثقافي لأفضل الإصدارات لعام 2021م (الدورة الثانية عشرة)، التي تقيمها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.