كتب وصفي التل في كتابه " كتابات في القضايا العربية . ص. 37 " فليست فلسطين اذن، الهدف النهائي للصهيونية ، و انما هي رأس جسر لتوسعات أخرى ، تقرر زمانها و مكانها عناصر القوة و الضعف في مفهومها الشامل سياسيا و عسكريا و اقتصاديا و علميا وتنظيميا ، معبأة في طاقة كلية تتصارع مع طاقة كلية مقابلة في كفتي ميزان ، ترجح أحداهما على الأخرى . " انتهى الأقتباس" ، ومن هنا نستقي بأن معركة " الكرامة " البطلة لم تبدأ فجأة ، و هي ليست وليدة أحداث سريعة و عاجلة كما ورد في كتاب " معركة الكرامة " لمؤلفه اللواء محمود الناطور " أبو الطيب " ،وبعد خاص الأحترام ، فلقد كتب صفحة "36" تحت عنوان " الدوافع المباشرة للاعتداء الاسرائيلي على الكرامة في 21 / 3/ 1968 ( شرعت اسرائيل في تضخيم انفجار لغم بحافلة في جنوب النقب في 18/3/ 1968 , و أعلنت أن الرأي العام فيها يطالب بالرد ولذلك أعلن رئيس الحكوالمة ليفي أشكول في الكنيست في نفس يوم الحادث أن الأردن لا يفعل شيئا ليضع حدا لأعمال الفدائيين التي تنطلق من أراضيه ، و الأردن مسئول عن الخرق المستمر لوقف اطلاق النار و النتائج التي يمكن أن تسفر عن ذلك ، و سنضطر نحن لحماية أمننا . وحديث في كتاب السيد الناطور عن احتجاج الأردن لدى مجلس الأمن محذرا من التمهيد لهجوم على الأردن، ورغم صحة ما ذكر هنا أعلاه ن الا أن عمق معركة " الكرامة " حسب تصورير وقراءاتي لمجريات الصراع الاسرائيلي- العربي أعمق بكثير ، و المحطة الأولى كانت في قرار " التقسيم " عام 1947.
وهو القرار الذي رفضه العرب بسبب تمسكهم بشرعية كامل فلسطين رغم صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 الخاص بذلك ، والذي نادى بحل الدولتين ، عربية و يهودية ، و قرار الرفض العربي ساهم في دفع العدوان الاسرائيلي لشن حرب عام على العرب عام 1948 جرت أحداثها بعيدا عن التنسيق العربي المطلوب لمواجهة الحرب / النكبة في زمن غياب التوازن العسكري العربي - الاسرائيلي ، و مرت المنطقة بالعدوان الثلاثي على مصر ( فرنسا ، اسرائيل ، بريطانيا ) بسبب تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس ، وهو الذي أتبعها بشعاره القومي " ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة " ، و قرر و سوريا و العراق و الأردن شن حرب مفاجئة على اسرائيل بهدف تحرير فلسطين التاريخية من دون حسبة حقيقية لمعيار " القوة " العربية المطلوبة لمثل هكذا مشروع تحريري ، فغابت قوة " الوحدة العربية الواسعة ، و غابت قوة السلاح المطلوبة للمعركة ، و غاب الاستخبار ، و تلاشى الدعم العسكري الخارجي ، وكانت النتيجة صادمة لكل العرب ، عندما أعلن عن نكسة خسر فيها العرب أكثر من البشر ، وهو الذي حذر منه وصفي التل نفسه ، فتم خسران فلسطين و قدسها الشريف ، و الجولان – الهضبة العربية السورية ، و سيناء التي عادت بقوة السلام عبر معاهدة " كامب ديفيد " عام 1978 و معاهدة السلام المصرية – الاسرائيلية عام 1979 ، و مزارع و تلال شبعا اللبنانية ، وقطاع غزة الفلسطيني الذي انسحبت منه اسرائيل عام 2005 ، ولم تهدأ الحسابات الاسرائيلية – الفلسطينية و مع العرب ، وزاد التشنج ، و تم تسخين الحدود مع الأردن من خلال مطاردة المقاومة الفلسطينية من قبل اسرائيل ، ووضعت اسرائيل عينها من جديد على الأردن عبر معركة مشتركة " اسرائيلية – فلسطينية – أردنية " ، بمعنى " قلم قايم " ، تصدى لها الخندق الواحد الأردني – الفلسطيني ، و كان لقواتنا الأردنية الباسلة - الجيش العربي و رغم فقدان توزان القوى لصالح اسرائيل كما ذكر بطلها الميداني مشهور حديثة الجازي في تسجيل صوتي له ،الا أن بسالة الجيش العربي الاردني فاقت التوقعات ،و الأصرار الأردني العسكري على النصر بعد اخراج اخر جندي اسرائيلي من أرض الكرامة شكل بوابة كبيرة للعبور تجاه النصر الكبير الذي شاركت في صنعه المقاومة الفلسطينية ، و الوحدة الوطنية شرقي النهر الخالد و غربه .
تستحق مناسبة النصر الأردني – الفلسطيني الساحق المشترك و بأسم العرب رفع مجسم الجندي المجهول في الكرامة الى 15 مترا بقدر ساعات المعركة ، و صاحب فكرة بناء المجسم الأصيل تعود للباشا المرحوم محمد بشير الشيشاني ، و اطلالة الجندي الأردني الشامخة سوف تكون مشاهدة من مرتفعات السلط خط الدفاع الأول عن عمان العاصمة وحتى ضفاف نهر الأردن ، وهو النصر النوعي الذي قاد الى نصر تشرين عام 1973 بمشاركة قواتنا المسلحة الأردنية الباسلة / الجيش العربي التي تقدمها اللواء المدرع أربعون بقيادة الباشا خالد هجهوج المجالي ، و سقط للأردن الى جانب العرب فيها شهداء ، و خرجت بنتيجة تحرير مدينة القنيطرة الجولانية ، وقوة اسرائيل في حروبها مع العرب ترتكز على اعتمادها على الخارج ، و ترسانتها النووية غربية الأصل كشف عنها الخبير اليهودي مردخاي فعنونو عام 1986 لصحيفة " صنداي تايمز " اللندنية .
و الأحداث المؤسفة التي تبعت "الكرامة " و التي سميت بأيلول استهدفت عمان أيضا ، و خرج الأردن منها صامدا منتصرا، و استمر في بناء مئويته الأولى التي فتحت الطريق و عبدته تجاه المئوية الثانية التي نعيش ، ووقف الأردن الى جانب العراق في حربه مع الصفويين ، و أصدر كتابا أبيضا بعد اجتياح الكويت عام 1990 يوضح موقفه المعارض للاجتياح ، وعبر الأردن بوابة فك الارتباط القانوني و الاداري مع الضفة الغربية عام 1988 بعد قرار لمؤتمر العرب في الرباط عام 1974 لفتح الطريق أمام منظمة التحرير الفلسطينية لتتفاوض مع الجانب الأسرائيلي مباشرة وصولا لبناء دولة فلسطين كاملة السيادة و عاصمتها القدس المحتلة ، لكن وضع القضية الفلسطينية في السلة الأمريكية بالكامل منذ مؤتمري مدريد و أوسلو عامي 1991/ 1993 جعلها تراوح المكان ، و الحرب الروسية – الأوكرانية – ومع " الناتو " بالوكالة التي اندلعت بتاريخ 24/ 2/ 2022 زادت الطين بلة ، و أبعدت أهم دول مجلس الأمن مثل روسيا الاتحادية و الصين الشعبية عن دورهما الفاعل في مجالها ، وهما المطالبان بشجاعة و علنا بدولة فلسطينية تكون عاصمتها القدس المحتلة ، و بتجميد الاستيطان ، و بترسيخ الوصاية الهاشمية التاريخية التي أرسى مداميكها ملك العرب و شريفهم الحسين بن علي طيب الله ثراه عام 1924
على المقدسات في القدس، و اللقاء العربي - الصيني في الرياض عام 2022 كان هاما يؤسس لمرحلة مشرقة في عالم القضية الفلسطينية العادلة .
وقرار الأمم المتحدة 242 الذي يطالب اسرائيل بالعودة الى حدود الرابع من حزيران لعام 1967 صنع في الأردن ( كتب مروان المعشر في كتابه " نهج الاعتدال العربي – مذكرات سياسية 1991- 2005 . ص 29 " .. فأدى الأردن بذلك دورا أساسيا في صوغ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في نوفمبر تشرين الثاني 1967 و اقراره ، وقد دعا القرار اسرائيل الى الانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها في الحرب، مقابل حصولها على السلام " .
ومعاهدة السلام الأردنية - الأسرائيلية عام 1994 لم تنطلق من فراغ ، ووقعت مع اسرائيل من زاوية الند للند و تحت غطاء دولي ، وصوت عليها البرلمان الاردني ، و هدف الاردن من خلالها حماية حدوده السيادية الجغرافية و المائية ، و أسست لتحرير الأردن و بقرار شجاع لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين لأقليمي الباقورة و الغمر ، ومنذ نصر (الكرامة ) لم يقبل الأردن غير النصر ، و لا يقبل بأقل من النصر ، و عينه على مواصلة البناء عبر مسيرة و اعدة من التنمية الشاملة الخادمة للأنسان الاردني و الوطن العروبي بكامل عمقه الجيوسياسي الهام.