مما يثير الدهشة والغرابة أن صديقي الذي لا يريد ذكر اسمه يجتهد دائما في عمل الخير حتى مع الأشرار؛ حتى أنه يدعو لهم بالهداية دائما في صلاته وقيامه. و كنت أستغرب دعاءه لهم فيقول : لعل الله يهديهم فلا تدري عسى أنهم يقدمون على فعل الخير الذي لا يعلمه إلا الله ، بينما نحن نتأمل الجانب السلبي في حياتهم يا أخي، الحكاية ليست فقط صلاة وصيام أمام الناس ومع ذلك عاق للوالدين ، وتؤذي جارك، وتحرم البنات من الميراث ."
وهنا كانت لكلماته تأثيرا مباشرا على شخصيتي ونظرتي للأمور فقد كان يقول :" يوم القيامة سوف نتفاجئ بأعمالنا والناس سوف تتفاجئ أيضا في أشخاص كانوا يصلون و يصومون ، ولهم قدر عالٍ، ولكن يوم القيامة ليس له قدر عند رب العالمين ، وبينما أناس نحسبهم ليسوا من أهل الصلاح ولكن يوم القيامة يكون لهم القدر لما قدموه من أعمال خيرية من غير أن يعلم الناس ذلك ؛ فالناس يا يوسف لها المظاهر والأمور المخفية لا يعلمها إلا الله ."
حضر صديقي جنازة قبل حوالي (١٣) سنة لرجل عجوز، وقتها استغرب صديقي قلة الذين حضروا الجنازة و بعض المراسم، فهمست في أُذن صديقي : أنه لا يصلي فأجاب صديقي :" اسكت واخفِ الأمر حتى لا يسمعك أحد فيتركوا الميت" فأكمل حديثه:" لا بأس، أسأل الله أن يرحمه في صلاتنا عليه، ولعله قدّم خيرا لا نعلمه .
ومرة شاهد حرباء تحاول أن تشرب من" كولر الماء" فقام صديقي بفتح صنبور الماء قليلا لكي تشرب. و بعد أن أنهت ارتوت قام بإبعادها عن الكولر و قتلها حتى لا تؤذي الآخرين .
دأب صديقي على التجوال بين المقابر عند الانتهاء من حضور الجنازة، و يقرأ الفاتحة لجميع الموتى، وتارة أخرى أراه يقف على قبور البعض و عندما أسأله عن معرفته بهم فيقول لا أعرفه و لكنني أعرف ابنه الكريم وقريبه المحسن أو حتى صديقه البار بوالديه ، وأراه أيضا يقف على قبر ابن أو ابنة فعندما أسأله عنه فيقول بأن والدي هذا الابن من الصالحين الذين يكرمون الضيف والقريب والنسيب .
كان صديقي يثير الحيرة والإعجاب في شخصيته ، فقد كان يدعو لهم ويخصهم بالدعاء لمجرد أنه يعلم أن أحدا من أقارب الميت قدم له معروفا أو لقريبه أو لأي أحد من الناس أو غير ذلك ، وتارة أخرى ينادي عليَّ في المقبرة" تعال يا يوسف و اقرأ الفاتحة على قبر والدة مديرك السابق الذي كان يدعوك للركوب في سيارته وإيصالك إلى البيت) لأنك وقتها لا تملك سيارة ، وتارة أخرى ينادي علي لكي أقرأ على والدي جارنا أو والدة صديقي أو على قريبي لي و غيرهم ، فكنت في البداية أنزعج من تصرفاته و كنت أقول في نفسي مستهزءا يا ليتني أداوم على زيارة قبور والديّ فقط ، و بعد ذلك تعودت على أسلوبه الخيّر الوفي ، وبدأت أكره بشدة ناكر المعروف إلا أن صديقي رد علي قائلا مستشهدا بقصة الأفعى ناكرة المعروف ، وتتلخص أحداثها حول ناكر الجميل بأن هنالك أفعى طلبت النجدة من رجل يحميها من ذلك الرجل الذي يريد قتلها ، فقالت الأفعى افتح فاك لأدخل إلى جوفك ودخلت إلى جوف الرجل المسكين ، وأظهرت رأسها من فمه قائلة :" أتعرف ما أريد أن أصنع بك" قال لا، فقالت أريد أن أقطع أمعاءك، فقال لها مستغربا "ولماذا وأنا أخفيتك عن الرجل الذي يريد قتلك، فقالت له لأنك فعلت المعروف لغير أهله، قال: أمهليني حتى أحفر قبري وبينما هو يحفر في قبره جاءه رجل فقال لعلك عطشان فاشرب من هذا الماء، فشرب؛ فتقطعت الأفعى في أمعائه واستفرغها، فقال الرجل من أنت يا هذا؟ فقال :أنا ملك من السماء الرابعة بعثني ربي مجازيا لناكر المعروف .
كما أنه أصرّ يوما من الأيام على تعزية صديق لي في منطقة بعيدة لمجرد أنه عرف أن ذلك الصديق كان يوصلني في سيارته إلى الدوام عندما كان زميلا لي في المدرسة حتى أنه كان يدعو له بالخير والبركة ، وتارة أخرى يفرح شديد الفرح عندما يعلم أن أحدا دعاني على عزومة وكأنه هو المدعو لها ، وتارة أخرى يفرح عندما يعلم أن زوجتي قد دعيت على التعليم الإضافي وكأنني ابن له .
رغم ذلك ، فقد عرف عنه البساطة، حيث يمتنع عن تلبية الدعوة لكل عزومة أقيمها ، قائلا :" ليش أنا والدك ولا عمك يا يوسف" وكأنه يريد إرسال إشارة ضمنية على حد تعبيره .