هناك من يُقدّم أهميّةَ الطعام واللباس على أهميةِ الحياة والجسد، إذ أنَّ الحياة في فلسفتهم لا تتعدى مسألتي الأكل واللباس. لكن ماذا يفيد الأكل وماذا يفيد اللباس عندما يخسرُ الإنسانُ حياتَه أو عندما يَعتّلُ جسده. فأعظم نعمة خَصّنَا بها الله هي نعمةُ الحياة ونعمةُ الجسد الصحيح المُعافى.
والحقيقة أنه لا يُقدّر الحياة إلا من فقد أعّزَ مَن لديه، ولا يقدّر نعمة الصحة إلا من إعتّل جسدُه لسبب أو لآخر، والحقيقة أننا كلُّنا معرضون لذلك، فليس منّا مَن يقدر أن يَحيا في هذه الدنيا إلى الأبد، وليس منَّا من يقدر أن يَبقى صحيحاً تاماً إلى الأبد ولو مع تقّدم الأيام والعمر.
وحاليا نحن نعيش مأساة الزلازل التي ضربت المغرب العربي وكذلك الأعاصير التي عصفت بدرنة في ليبيا، ونعايش حجم المأساة الكبيرة لمن فقد أسرته وأقاربه وجيراته وخلاَّنه، وكذلك لمن إعتّل جسدُهُ جرَّاء ذلك، فلم يعد سليماً كما كان مِن قبل، فماذا تعنى لهم حياتُهم بعد ذلك؟ وماذا قد تعني لنا أيضاً؟
فالحياة تحوي في جوهرها قيمة كبيرة لا يجب إختزالها بعالم المادة والعالميات، فالحياةُ قيمةٌ روحية كبيرة، تسعى فيها النفس البشرية للإنعتاق من عالم المادة وشرورها إلى عالم الروح والروحانيات، فأشواق النفس كبيرة وعالية وتسعى دائماً لتحقيقها والعيش بموجبها. وما يجب أن نسعى إليه هو أن لا نسمح لمَا تسبَّبَ به الإنسانُ من ضررٍ وفسادٍ وشّرِ في الطبيعة وفي إختلال التوازن البيئي والطبيعي أنْ يؤثر على إصرارنا على السعي الدائم نحو تحقيق أشواق قلوبنا الكبيرة، إذ لا شيء يُشبع جُوعَ النفسِ وعطشِها ويُغطّي عُريها إلا عالم الروح والروحانيات المشبَعة بالقيم الروحية العالية والحبِّ والجمال والفّن والموسيقى الراقية والمشاعر الإنسانية النبيلة والكرامة الإنسانية.
بلا أدنى شك أننا نحتاج في حياتنا إلى الطعام وإلى اللباس، والخالقِ عزّ وجّل قد تكفّل بتوفيرها لنا، وخير دليل على ذلك زنابقُ الحقل وطيور السماء، فهي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن ولكن الله بحكمته يقوتُها، أفلسنا نحن بني البشر أفضل منها بكثير؟! وتوّفُرها لنا لا يعفينا من الإجتهاد والعمل بأمانة وجّد وتعبٍ وإخلاص، فالحياة زرع وحصاد، نزرع في الصباح ونأوي للراحة في الليل، فَنحصدَ ثمارَ الخيرات والبركات، ولكن ما نحتاجه حقّا في حياتنا هو أكثر بكثير من الطعام واللباس، إننا نحتاج إلى أن نُشبع أشواقَ النفس الروحية، لأنَّ الروحَ لا يمكن أن تعيشَ بسلامٍ بعيدةً عن باريها وبمعزلٍ عنه.