كنّا صبيين حالمين حينما التقينا صدفةً عند البرميل في مدرسة الكرامة الإعدادية / الوكالة؛ قبل أربعين عاما ويزيد.. كنتُ في الصفّ الرابع الابتدائي وهو في الصف الثالث.. طلب منّي الأستاذ أن أذهب وأفرغ سلة الزبالة في البرميل وبذات اللحظة طلب منه أستاذه ذات الطلب.. اختلفنا من يفرغ سلته أوّلًا .. كنّا أطفالًا لا نعي فقه الواقع ولكننا اتفقنا على أن نفرغ سلتينا بذات الوقت.. واتفقنا على ألّا ننفصل بعدها..!
كان صاحبي الأثير .. عشرون عامًا ملأناها سويًّا .. دخلنا الأحزاب سويًّا.. عملنا حركات قرعة سويًّا.. حلمنا بتحرير فلسطين سويًّا.. يعرفنا الشجر والحجر والإسفلت والأزقة والخائفون في بلدة الكرامة سويًّا..!
والعشرون عامًا الأخرى هي عشرون الفراق و الاختلاف والسلام من بعيد لبعيد.. نادرًا ما نلتقي؛ نادرًا ما نعيد ما كنّا نفعل ولكننا لم ننسَ..! وحين كنتُ أغضب منه أقول له وهو يضحك: يلعن سلّة الزبالة اللي عرفتني عليك.
حكاية صاحبي لا يكفيها مقال ولا اثنان ولا مئة ولا ألف.. هو أكثر من نصف سيرتي ومسيرتي.. فلا زلتُ أذكر كيف كنتُ آوي إليه وأضع رأسي على حجره وأقول له: غنّيلي..! كان يغني لي حتى أنام.. غنّى لي لفرقة العاشقين ولم أعرفها إلّا عن طريقه؛ : يا شوفات للنسر، اشهد يا عالم علينا وع بيروت، ومن سجن عكا، ودوس ما أنت دايس..وكان يحدثني عن رجولة صوت "حسين منذر" قائد الفرقة وعرفته وسمعت به وأحببته من خلاله.. وغنّى لي وعرفني بـ (أبو عرب)..!
نعم؛ افترقنا قبل عشرين عامًا.. لكنه كل يوم معي.. حضرنا مئات المسرحيات والأفلام معا؛ فيلم "سلام يا صاحبي" حضرناه معًا أكثر من ثلاثين مرّة.. وناقشنا كبريات القضايا معا.. وطوال ابتعاده عنّي؛ كل شيء يذكّرني فيه، ومرات كثيرة أضحك ولا يعرف من حولي السبب والسبب يكون هو.. وأبكي والسبب هو..
قبل يومين.. أي والله.. انظروا للقدر.. وقفتُ أمام محل لبيع المواد المنزلية.. استوقفتني سلّة.. نظرتُ إليها.. تذكرتُ صاحبي.. اشتريتها.. وعدتُ فرحًا بها للبيت.. بعد ساعة أو أقل.. يأتيني الخبر.. صاحبي وصانع ذكرياتي وساكن وجداني؛ مات.. ومات منذ فترة.. يا الله لقد مات ! لا أريد أن أحدثكم عن ليلتي تلك.. ولكن الحديث سيأتي ذات يوم ولعله قريب جدًا..
ويل للسلّة ماذا فعلت بي.. قضيت الليلة أنظر إليها أضحك وأبكي.. وحين جاء الصباح.. جاء خبر وفاة حسين منذر قائد فرقة العاشقين..!
ماذا أقول الآن؟ وكيف أفسّر المفارقات؟ وكيف أجمع شتاتي..؟ حتى الفاتحة حينما قرأتها عليه كانت أقسى فاتحة أقرؤها بحياتي..!
لمَ يا صاحبي..؟ لِمَ لم تترك لي مجالًا لعتاب أخير..؟ لِمَ فعلت بي وبنفسك كلّ هذا..؟.