في حالة "الفوضى" التي تسود تفاصيل الحرب الأوكرانية القائمة على التضليل الإعلامي، ينبغي الاعتماد على ما يَرْشَحْ من قرارات -رغم مخالفتها للمنطق أحياناً- يتم اتخاذها في الدوائر المغلقة بين روسيا من جهة والناتو على الأراضي الأوكرانية من جهة اخرى، في الحرب التي يحاول الغرب حشرها إعلامياً في سياق حرب تدور رحاها بين بلدين متصارعين، على اعتبار أن الدعم الغربي المفتوح للطرف الأوكراني قانوني ولا يندرج في سياق التدخل العسكري المباشر.
ولكن هل يعني أمداد الغرب للطرف الأوكراني بالمال والعتاد والخبراء وبيانات الرصد الميداني عبر الأقمار الاصطناعية غير المشاركة الفاعلة المباشرة.
ومع أن المشاركة الغربية الميدانية غير المعلنة رسمياً لأوكرانيا بالجنود والخبراء موجودة بدلالة ما يُؤْسَرُ منهم لدى الجانب الروسي أو يسقطوا قتلى تحت ركام غرف العمليات المدمرة بالسلاح الروسي المتين في قلب العاصمة كييف؛ إلا أن القرار البريطاني "المعلن" الأخير جاء خارج السياق، بخلطه كل الأوراق السياسية والعسكرية.
وعليه فلا بد من إيجاد تفسيرات لأهداف هذا القرار المُجَاِزْفْ الذي من شأنه لو نُفِذَ أن يورطَ الناتو في حرب عالمية ثالثة غير متكافئة على صعيدٍ تقليديِّ من حيث التفوق الروسي أمام التقهقر الغربي في أوكرانيا-على الأقل في الوقت الراهن_ لو قارنا بينهما من ناحية الخبرات القتالية والتفوق العددي للجنود والنوعي للعتاد الروسي بأنواعة بعد اختباره في الميدان، إلى جانب الصمود الروسي على صعيدين عسكري واقتصادي.
وهي تطورات ستكون مدمرة إذا ما استخدم فيها النووي التكتيكي.
وتذكروا معي ما قاله بايدن في يوليو الماضي في أن تهديد نظيره الروسي فلاديمير بوتين -أنذاك- باستخدام القنابل النووية التكتيكية، التي قال لوكاشينكو إنها أقوى ثلاث مرات من تلك الملقاة في 1945 على هيروشيما وناكازاكي، هو فعلاً "حقيقي" أي أن الغرب الذي تكبد خسائر طائلة وأصيب بالتضخم من جراء الدعم السخي لأوكرانيا مدركٌ تماماً لخطورة الموقف، وخاصة بريطانيا التي بدت وكأنها تقامر في مصير أوروبا.
فكيف نفسر إذن ما وعدت به وزيرة الدفاع البريطاني غرانت شابس أثناء زيارتها لكييف يوم الخميس الماضي بالمزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا من لندن. فهل هذا من باب المناورة؟
ليت الأمر يقف عند هذا الحد؛ فبعد حديث شابس عن نيتها نشر قوات بريطانية في أوكرانيا، أخذت تلمح إلى إرسال أسطولها إلى البحر الأسود بذريعة حماية السفن التجارية من التدابير الروسية هناك.
وأشارت غراند شابس لصحيفة تلغراف إلى أنها بحثت هذه القضية مع فلاديمير زيلينسكي خلال زيارتها الأخيرة إلى كييف.
فهل هي مغامرة جادة غير محسوبة بمعزل عن موقف الناتو، أم مجرد بالونات اختبار يطلقها الناتو من خلال القرار البريطاني؛ لفحص مدى جدية روسيا في تنفيذ تهديداتها إذا ما تحولت الحرب إلى مواجهات مباشرة ينخرط فيها الناتو، حيث أجرى الأخير مناورات كبيرة بقيادة ألمانية في بحر البلطيق في التاسع من سبتمبر الماضي وبمشاركة 14 دولة أوروبية، تعاملت ميدانياً مع الموقف الاستراتيجي بمحاكاة نفس التضاريس الطبيعية الروسية المطلة على بحر البلطيق، في نيةِ ردعٍ مبيتهٍ ضدَّ الدب الروسي.. فهل ثمة ما يجمع بين الموقفين؟
ويمكن للتهديدات البريطانية أعلاه أن تشيرَ إلى اختلاف الناتو على دعم أوكرانيا من خلال محاولة بريطانيا الزجِّ بالناتو في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ لا تبقي ولا تذر، وهو ما يترجم الاندفاع البريطاني المعلن في دعم كييف منذ البداية، ربما من باب الغطرسة التي عهدت بالبريطانيين على صعيد تاريخي لإثبات الذات؟
إن طبيعة الرد الأمريكي الحذر على هذه التصريحات التصعيدة جاءت كما يبدو وكأنه تبادلٍ للأدوار، بغية ترهيب موسكو، وقد يكون العكس هو الصحيح، فالحرب عماء إذا لم تُدْرَكُ بالحكمةِ والرشاد.
فأمريكا كدأبها وفق حساباتها الخاصة، تتوارى خلف المواقف الغربية فيما تقوم بالدعم السخي لأي قرار من شأنه أن يبعد الأزمة عن آفاق الحلول السلمية الممكنة، فتنأى بنفسها عن المحاسبة الداخلية والتأثير على الرأي العام في الانتخابات الرئاسة المقبلة في نوفمبر 2024؛ لذلك صرحت عضوة مجلس النواب الأمريكي مارجوري تايلور غرين بأن بريطانيا ستبدأ الحرب العالمية الثالثة بإرسال قوات إلى أوكرانيا. منوهة إلى أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تشارك في هذا ولا توجد قوات أمريكية للمساهمة في ذلك.
ووفقاً لغرين يتعين على الولايات المتحدة بدلاً من دعم أوكرانيا حماية حدودها.
ويقتضي التنويه إلى أن بريطانيا تدرك تماماً خطورة الرد الروسي إذا تفاقمت الأمور في هذا الاتجاه، وبأن موسكو لا تُحْشَرُ في الزاوية؛ لأن تداعيات ذلك ستوسع من دائرة الأهداف الروسية لتضم العمق الأوروبي مباشرة، حينها لن تكون التهديدات الروسية المتصاعدة عبثية.
من جهته حذر ديمتري ميدفيديف الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، الأحد، من الاندفاع نحو "حرب عالمية ثالثة" بعد تصريحات وزيرة الدفاع البريطاني، غرانت شابس، التي أشارت إلى الرغبة في نشر جنود بريطانيين في أوكرانيا بغرض تدريب القوات الأوكرانية، وفق رويترز.
وقال ميدفيديف، ، إن المدربين البريطانيين في أوكرانيا سيكونون أهدافاً مشروعة للقوات الروسية. وأشار كذلك إلى أن الأمر ذاته سينطبق على المصانع الألمانية التي تنتج صواريخ تاوروس إذا أقدمت برلين على تزويد كييف بها.
وما بين جدية القرار البريطاني أو إدراجه في سياق الحرب النفسية على موسكو؛ بغية التوصل إلى اتفاق سلام وفق الشروط الغربية؛ يتقدم تفسير آخر للقرار البريطاني في أنه جاء لقطع الطريق على إي "وهم" روسي باتجاه إخضاع الغرب للشروط الروسية رداً على تصريحات الرئيس الفرنسي السابق
ساركوزي حول رؤيته لوقف الحرب الأوكرانية، حيث دعا في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، نشرت أواخر سبتمبر الماضي، إلى إبقاء أوكرانيا «محايدة» وإجراء استفتاء يفضي إلى «الاعتراف» بالضم.
وتعرض من جراء ذلك إلى موجة انتقادات من جانب سياسيين وخبراء اعتبروا أن مواقفه «مخزية» وروسيا «اشترته».
ويبدو أن الأزمة الأوكرانية وضعت العقل الغربي في منطقة عدم اليقين بعد الفشل الغربي الذريع في هزيمة روسيا، وما أصاب الغرب من ازمات جراء ذلك، مع انحسار الحكمة والعقلانية لصالح فرص التصعيد الأعمى والمقامرات غير المحسوبة بدون ضوابط.
وتكمن الخطورة البالغة في ان تُحْسَبُ الخطوةُ البريطانيةِ في سياق ذلك. الله يستر!