فتقت لذة وعمق شروح عميد الأدب العربي طه حسين لقصيدة لبيد بن ربيعة" عفت الديارُ محلُّها فمُقامُها" وإطنابه البدبع في وصف ناقته صندوق ذاكرتي وكأنني استمع لجدتي لأبي الآن رحمها الله وهي تحدثني عن ذلول والدها طيب الله ثراه، والذي لازمته طيبة حياته.
قالت لم يكن والداها يذهب إلى أي مكان إلا ركب ذلوله،- َحتى وأن كانت المسافة ضمن مضارب قومه، وتذكر أنه حج مطلع القرن الماضي على تلك الذلول في رحلة استغرقت مدة ثلاثة أشهر.
في إحدى تغريبات العشيرة سكنوا منطقة مشارف عالأغوار، وعقب فترة انتشر وباء بين الناس، كانت تفوح من الأرض رائحة غريبة، كان يموت أكثر من شخص يوميا، ومات والدها أيضا، دفنوه حسب وصيته بجانب ضريح الصحابي "أبو عبيدة" رضي الله عنه، يومها فقدت الذلول فطفقت تبحث عنها، وجدتها وقد ناخت بقرب قبره، امتنعت عن الماء والعلف، يصدر عنها رغاء يُقطّع القلب، لم أستطع إعادتها إلى البيت، صرت أروح لأجلس عندها، ذهبت صباح اليوم الرابع كعادتي، وجدت رأسها متوسد القبر وقد فارقت الحياة.
بعد كل مرة كانت تحكي لي قصة ذلول والدها، تهزج بمقطوعة هجيني شهيرة بين أهل الصحراء وتمسح عينيها بطرف الملفع، قد تكون هذه الأهزوجة من أدق ماوصف لوعة فراق الأحبة والتجمل بالصبر على ذلك.
"يا فاطر لا تجضينِ.. صيري على الضيم صبّارة... على الحّبيب تحنينِ... حنين خلوج على حواره"
بعد حركشة هذه الذكرى وجدت الإبل هي الأحب لي، قد يكون لذلك أسباب عدة ليس أولها أن الإبل هي أول ما استخدمته العرب قديما، وليس أخرها التفكر بقوله سبحانه (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)
*الفاطر: الناقة كبيرة السن
الخلوج:الناقة الفاقدة ولدها
الحوار:ابن الناقة الصغير.
*الذلول:ناقة مدلله مخصصة لتنقل صاحبها فقط، لا تهان بحمل المتاع أو غيره من الخدمات.
*الملفع:قماش اسود يُلف به رأس المرأة ماتحت" العصبة/المنديل"