أكثر الناس وطنية هو الذي يجعلك تحب وطنك أكثر، لا بكلام يقوله، بل بفعل يفعله، وسلوك يسلكه، وفق ما أوتي من قدرة وإمكان؛ إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ومن هنا، فلــــــيس بالضـــرورة أن يكون الصادحون بحب الوطن: شعرا ونثرا، وكتابة وخطابة، وغناء، أو (المسحجون) بشكل فج، أو المفتونون بترديد الشعارات الفارغة من المضمون - أكثـــــــــــــرَ وطنية من سائق تكسي، مثلا، لا يعبث بعداد السيارة، ولا من صاحب مطعم أو متجر يحرص على ألا يطعم الناس ما انتهت صلاحيته من مواد غذائية.
وليسوا أكثر وطنية من عامل نظافة يؤدي عمله بإتقان، ولا من تاجر أمين لا يلعب بالميزان، ولا من موظف يقوم بواجبه بحب واحترام؛ مبتعدا عن كل شبهة حرام، ولا من مزارع يكد ويشقى؛ ويقدم منتجاته خالية من كل ما يضر.
وليسوا أكثر وطنية من ربة بيت، تقوم على رعاية بيتها وأبنائها، وتقف مع زوجها في السراء والضراء. فما بالك إذا كانت بالإضافة إلى ذلك كله موظفة أو عاملة؟
***
في المذاهب والعقائد والأديان، هناك من هم مشبعون بالكفر الصُّراح، ومن هم ممتلئون بالإيمان العميق، ومن هم منافقون، يظهرون غير ما يبطنون؛ لمآرب يبتغون تحقيقها، أو مكاسب يسعون من أجل الوصول إليها.
وكذلك هو الأمر في الوطنية والمواطنة:
فهناك مؤمنون بالوطن حقيقيون؛ يحبونه في قلوبهم، ويعملون من أجله في تصرفاتهم وسلوكهم، يؤدون ما عليهم من واجبات، ويطلبون حقوقهم، ليأخذوها من أعين الظالمين.
وهناك كفار واضحون، يقفون في الخندق المعادي للوطن وأهله، والحسنة الوحيدة في هؤلاء أنهم واضحون مكشوفون.
ولكن الأشد خطرا على الأوطان ــــــــ هم الذين ينظرون إلى الوطن كبقرة حلوب، يسبحون بحمد الضرع المكتنـز ما دام يصب في أفواههم وحدهم، ويتغنون بتراب الحقل ما دام نتاجه يؤول إلى مخازنهم و(كوايرهم) الظاهرة والباطنة، والقريبة والبعيدة، دون أن يسمحوا بوصول شيء منه إلى من حرثوا وزرعوا وحصدوا وحرسوا.
ويشبه هؤلاء أولئك الذين يسممون أجواء الناس، ويلوثون التآلف المجتمعي؛ بتعصبهم الأعمى، سواء لمذهب، أو لعرق أو قومية، أو لطائفة أو عشيرة، أو لناد رياضي، أو لفرد مهما علت رتبته ومرتبته.
الوطنية، يا هؤلاء، لا تتحقق بكوفيات على الأعناق، ولا بأعلام على الصدور، ولا بتصفيق أو هتافات في احتفالات مصطنعة، وتجمعات مخترعة، يقوم عليها (طراطير)، يعملون (بالقطعة) مقابل فتات زهيد، كذلك الذي يلقى (لباسط كفيه بالوصيد).