كل مواجهة فإن استقامة المفاهيم العسكرية يحتف بها و يتولد عنها سلسلة من المعارك وإستقامة المفاهيم شرط لتحقيق النصر . تلك قاعدة قرآنية مطّردة ، قد يتأخر النصر حتى يُستوفى الشرط ، و قد يحجب لفترة زمنية حتى يتم تصحيح المفهوم الإستراتيجي .. كما حدث في "غزوة أحد" حينما إختل مفهومان استراتيجيان : الإنضباط العسكري (لا تبرحوا أماكنكم و لو تخطفتنا الطير) و الميل الى الغنائم ( منكم من يريد الدنيا)....
معارك فكرية و مفاهيمية ضارية تدور رحاها مع طوفان الأقصى ولو تأملنا فإن الوحي كان يتنزل بطائفة من التعقيبات و التصويبات في أعقاب كل معركة من المعارك المفصلية ! حدث ذلك بعد بدر و أحد ، و كذا الأحزاب و الحديبية، ثم الفتح و تبوك، كان الهدف المركزي لتلك الطائفة من الآي الكريم بناء الوعي العقائدي المفاهيمي و تحقيق إستقامة المفاهيم الإستراتيجية .
أحوج ما تكون الأمة اليه و هي تخوض معركة حاسمة هو "إستقامة المفهوم الإستراتيجي "، ذلك أنه باستقامتها تستقيم المسالك و تستقيم الخيارات و تستقيم المشاعر ...
وحتى لا ينتج ذلك السيل المعلوماتي وعياً زائفاً و تصورات شائهة و يفضي بالتالي إلى علل مفاهيمية قاتلة، فلا بد للمسلم أن يتسلح بمنهجيات فكريةأخلاقية تصون منظومته المفاهيمية و تعصمه من العثرات الفكرية و تقيه الوقوع في مصائد الإرجاف...
و لعلي في هذه المساحة أضع بين يديك ثلاثة موجهات منهجية عسى أن تشكل أدوات لبناء وعي منهجي و رشد استراتيجي و عسى أن يكون الاستمساك بها محققاً لاستقامة المفاهيم ؛
• النظر الى الصورة الأكبر : مع ضرورة الإحاطة بمستجدات الحدث و الاقتراب من تطورات المشهد، فالأهم هو المآلات الكبرى ، فلا تذهب نفسك حسرات على تراجع تكتيكي هنا و إنكسار لحظي هناك فهذه و تلك من طبيعة المعارك الكبرى و الحرب سجال . الصورة في إطارها الاستراتيجي (حتى اللحظة) تنبيئ بمخاضات عسيرة و تشير الى بشائر عظمى؛ و يومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله. ..
• التسلح بالوعي القرآني: المنظور القراني للحدث يكشف الحجب و يوسع الافق و يزكي الفهم. حزمة مباركة من نواميس التدافع يزودنا بها الوحي ، منها اليقين بالنصر : "و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" و منها الصبر الاستراتيجي : "و لا تهنوا في إبتغاء القوم" ، و منها الثبات على المنهج : " قالوا هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله". حسبك أن تنظر في جملة التصويبات القرآنية التي تنزلت في أعقاب المنعطفات الكبرى لتدرك كثافة التركيز على بناء الوعي و الحرص على إستقامة المفاهيم . و هي ليست لذلك الجيل فحسب، بل لطلائع المجاهدين في كل عصر.....
• المنظور العقدي للصراع : المعركة ليست وطنية (فلسطينية -إسرائيلية) و ليست قومية و لا عرقية، بل هي في الجوهر صراع بين منهجين و مرجعيتين و عقيدتين : خرجت إحداهما نصرة للدين و دفعاً الظلم و دفاعاً عن الحق و حماية للمقدسات، و خرجت الاخرى بطراً و إستعلاء تحد لله و رسوله عليه افضل الصلاة واتنم التسليم ..
تلك منهجيات ثلاث أعرضها عليك لتكون لك عونا على القراءة الموضوعية و الاستشراف الرصين و الاستبصار النافذ ، تحقيقاً لضبط الأفكار و إستقامة المفاهيم الإستراتيجية ....
*: الأستاذ الدكتور حنان صبحي عبيد/ استاذ التخطيط الإستراتيجي الدولي.