في ذكرى رحيل المرحوم الحاج جمال سالم المشاورة "أبو رائد"، سطر الدكتور رائد المشاورة"أبو فرح " كلمات رقيقة استذكر فيها بعضاً من مآثر والده رحمه الله؛ وفيما يلي نص الكلمات التي نشرها الدكتور رائد :
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخرج بعيد صلاة الفجر حين تهب نسمات رقيقة في بواكير الصباح وقد سماها العرب ريح الصبا .. وقد كان الفاروق يذكرها إذ تراوده ذكريات أخيه زيد بعد استشهاده ،إذ لطالما كان يرددها شعرا في تذاكر أيامه مع زيد رضي الله عنهما . وقد كان زيد وعمر رضى الله عنهما يبغضان الكذب والنفاق وكان والدي كذلك أيضا. كان الفاروق في إحدى المعارك يقول لأخيه زيد خذ درعي يا زيد عندما سقط درعه محبة فيه ليحميه ! كانت قصة من قصص الوفاء التي كان والدي يرويها لنا.
إلام صرنا نحن في هذا الزمن العجيب... مسالك وعرة وغايات بعيدة وشعاب استعصت على سالكيها .. وماذا يفعل المهاجر الذي يشبهني؟!! منذ عشرات السنين وأنا المذبوح شوقاً .. لأمه التي يكلؤ دعاؤها خطاه ...لأبيه الذي رسم له الطريق بفلسفته النبيلة وسموه فوق الدنايا .
هو الذي قد غادر الحياة مبتسما راضيا بقدر الله.
كانت ساعات وفاته أشبه بحلم مر خاطفا وأبقى بعده الذهول والحيرة في تفاصيله .
لقد كان والدي شيخا من الحكماء وكبيرا من الأمراء. أحاول أن أنصفه في خلقه الكريم وعلو همته عوضا عن دهر لم ينصفه إلا نزرا يسيرا ..وهو الذي لم يكن متذمراً جاحداً ،فقد كان إيمانه بأن ما عند الله خير وأبقى!.
لقد طلبني قبل ساعات معدودة من وفاته عبر إحدى التطبيقات الرقمية وقد كان المتصل أخي أبا جمال حيث قال الشيخ يطلبك للحديث ...لبيت الأمر مباشرة لأرى صورة وجهه الصبوح وشيب هامته ولحيته الكثيفة ، وكأنه قادم من زمن الرجال الأوائل . كنت أقول له يا والدي أنت شبيه بسليمان شاه في مسلسل أبي الأتراك. وقد كان الممثل شبيه أبي بوسامته وعنفوانه وهو يصارع المرض وألم القلب. لم يتكلم طويلا كعادته لأنه كان لا يحب أن يخوض بما لا يلزم وكأنه يودعني لآخر مرة! تلك اللحظات التي ما تزال حاضرة معي كأنها برق يومض ليضيء بعض الحقيقة ويذكر بالبقاء على العهد في الوفاء ...كانت وشما دقدق بحراب الوفاء على جداران القلب المرهف في حزنه... المتعب من ندوبه.
إنه صاحب العصا التي حملها الأنبياء متكئًا عليها في كبره إنه أبو رائد...رمزا من الزمن الجميل .صاحب العطاء والبركات فقد كان بارا بأبيه الشيخ سالم ابن صباح رحمهما الله . فقد كان جدنا صاحب العباءة وهدب العين من أهل الجنوب وسيوف الوطن. كان بره لأبيه يصل حدود الشمس حتى المغيب وكان البكر من الذكور كما انا له. وقد بقي يلازم والده في آخر ايام حياته في مشفى عمان طوال الوقت ..متفانيا في بر منقطع النظير .وقد شهدت هذا منه أواخر السبعين إلى أن توفى الله جدنا وذهب به أبي إلى مسقط الرأس في السلع مقابل القلعة حيث كانت محطته الاخيرة .
توادعنا بالصوت والصورة وكان آخر كلامه ( وصاتك نفسك يبوي) إلى أن أتت ساعات الليل مرخية سدول الحزن علينا في مدينة (سدني في أستراليا) وقد كان التوقيت في الأردن بعد الظهيرة ،حيث حل بي تعب اليوم وهموم تراكمت وترحال لا ينفك يلقي بوعثائه على كاهلي ..نمت بعدها سويعات لأصحو على صوت ابنتي نور تقول: ( بابا جدو أبو رائد في ذمة الله)
قفزت من مكاني كإنطلاقة الرصاص من بنادق الزمن الصعب ..مفزوعا أحاول أن أعي ما قالته ابنتي .. أصحيح ما قلته يا نور؟!! قلت يائساً.... فأشارت إلى نعي جدها الجليل صاحب العصا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بعد أقل من ساعة على وفاته. أمعنت بالمكتوب وانا أكاد لا أصدق ما أقرؤه..وسط صدمة إخوتي في فراقه المفاجئ. تفحصت ما وردني من رسائل قصيرة وإذ برسالة أخي ابو هاشم يقول والدنا في ذمة الله….
يد المنون طالته على عجل فقبل ساعات كلمته وكلمني لكنه ذهب إلى دار الحق وتركني مذهولا أقلب كفا على كف في بلد بعيد جداً عن عيون الناس، وليت المنايا لها شفيع فأهبك من العمر ما تبقى يا أبتي!
لقد نعاك القريب والحبيب بإكرام وتكريم وأصبحت في مرقدك الاخير بعد أقل من ثلاثة ساعات تحت الثرى. لعله تكريم عميق للذين يعرفون أصل حكاية القيم ورمزية هذا التكريم.
ودعتك بلدنا البيضاء ومن اطراف المدن تراكضوا يوم وفاتك على عجل في مشهد رواه اخوتي .كان الجميع من أهل الديرة وشقيقاتك ووجوه لم نعرفها وكلهم من اهل مسجدنا تراكضوا ليودعوك ويلقون عليك السلام الاخير ويطبعون قبلة الفراق على الجبين .
رحل مبتسما يردد تشهد المؤمنين ولعل ما كان بينه وبين الله شيئا عظيما. ودعه الناس كلهم ودعى على قبره حافظ القرآن عمنا الجليل وانقضت أقدار الله بتسليم وهدوء...... فلا شفاعة في الموت وبقيت عصا الشيخ في بيته في قمة الجبل لتذكرنا بصبره على بلاء المرض أربعين عاما أو تزيد .
وقدكانت بركة الله تحيط به تكلؤه في كل تفاصيل حياته ومماته. ولو كان لنا الخيرة في المنايا لاخترت دربك بخفاء وإيمان مستسلما بقضاء الله لكني من المنتظرين قدر الله!
أتذكر يوم هرعت إلى المطار مباشرة لا أفكر بشيء غير الهبوط على أرض الاردن والوصول إلى جنوبها بلمح البرق ...لعلي ارى وجه الشيخ قبل أن يوارى تحت الثرى وأقبل هامته وأحضن قدميه ويديه... لكن زماننا ليس زمن نبي الله سليمان عليه السلام لأرجوه ان يرسلني مع الريح وأسياد الجن لأودع ابي !.
كنت في البلد البعيد الذي كانت نيرانه تطغى على جناته التي تغضب الله! وكان طريق المطارات طويلة كما استغلت شركات الطيران ما أن فيه وباعتني خدمة الوصول إلى عمان بثمن غال ...لكن الشيخ أغلى من كل ما املكه وكنت أردد على مسمع الناس عندما يرددون خواطر البر وطاعة الوالدين لأبناء الغربة حديث النبي الكريم صلوات الله عليه (أنت ومالك لأبيك).
ليت كل الأباء مثلك يا والدي الشيخ كنت تعد أيام غربتي كأنك سجين يعد الأيام بينه وبين حريته .
وهمك أن تراني بأحسن حال وكنت الوحيد الذي يتذكر يوم ولادتي !. كان يقول في صغري أنت أبو زيد الهلالي ولربما دفعتني سمرة وجهي أن أمسك الفأس بيدي وقد كان جربني رحمه الله في حقل وترابه فكان يقول لا أخشى عليك من عاديات الزمن وأنت لها في كل ميدان تلجه .
ولما كبرت كان يقول أبو فرح ولا يذكر اسمي مجردا فهو من قوم آمنوا بأعراف الرجال وبنادق الثوار وما أزال غطاء رأسه إلى أن توفاه الله. ولقد شعرت بخجل عميق عندما اصطحبته معي إلى تركيا قبل سنوات حيث أردت أن أطلعه على بعض ملامح تاريخ الدولة وحكاية سلاطينها..فكان أن اشتريت له قبعه فرنسية ظننت أنها ستريحه من لبس شماغه الأصيل وهو يتنقل في أسواق تركيا لكنه قال (لا يابا هذا الكلام ما يصير هذه ليست لنا يبوي) .
أحمد الله أني قدمت له شيئا يسيرا سر خاطره يوما قبل أن يغادر دنيا الباطل.
لله درك يا والدي كانت فرحتك مثل فاكهه الصيف وابتسامتك نادرة كسائر ابناء جيلك أصحاب الكشرة من شظف العيش ومراره الفقد وضياع فلسطين! فقد خدمت في الجيش العربي على أسوار القدس في الستينيات قبل الهزيمة والنكسة! وما درى الناس بأنك متعلم متزن حكيم صاحب خط جميل لأكثر من لغة في عالمنا.
عاش شيخي يتيم الأم منذ صغره، لكن الله عوضه بأمي التي تقاسمت معه أحمال الدنيا وصعاب الحياة عشرات السنين وأولاده يبرونه في حياته وبعد مماته. كان رجلا مباشرا منصفا عاش في ميادين الجندية مبكرا من عمره وإياك أن تخطئ معه وإن فعلتها فبحرنا المالح الميت في أخفض بقاع الكون لن يطهر أخطاءك معه.. كانت دناءة السلوك والخسه بالتعامل لا ترضيه فقد أمضى حياته كريما عزيزا لم يمد يد لإنسان طلبا لحاجة أو أن يستجدي من أحد .إذ لطالما كان مذهبه الذي علمنا إياه بأن نعطي ولا نأخذ .
وقد آثر العزلة في الزمن الاردني الصعب في آخر أيام حياته مرددا بصبر واحتساب : الله المستعان.
بعد يومين من سفر تبدلت فيه عدة طائرات ومن بلد إلى بلد حتى وصلت مطار عمان التي خيمت عليه الأحزان ردحا من الزمن، لأنك قلما تجد أحدهم مبتسما في زمن الشقاء الأردني الحديث. استأجرت سيارة لتوصلني إلى مسقط رأسي في الطفيلة حيث صنع الرجال معادنهم وكان الغبار يغمر الصحراء وطريق الجنوب مغلقة لأنتظر ساعة مع سائق المطار الذي ما انفك يذكرني أن أزيد أجرته لأنه ينتظر معي ..
لم يطفئ سيجارته طوال الطريق وهذا ابتلاء يخيم على جميع بيوت الأردن ..ولم يراع أنني مسافر قادم من بلد بعيد! وبعد الانتظار أعلنوا بأن الطريق الصحراوي مغلقة وحجزوا المركبات لإنعدام الرؤية تماما فقلت للسائق لابد لنا أن نغير دربنا إلى الكرك لعل الجبال تمنع الغبار هناك ونستطيع الوصول الى قبلتنا وأول ردة فعله منه قال أتزيدني أجرتي أحوالي سيئة وقلت له سأعطيك ثلاثة أضعاف حقك للطريق التي تقطعها والوقت الذي تمضيه في هذه الرحلةً لكنه أصرعلى طلب الزيادة أكثرمن حقه وطاوعته اشفاقا على حالته لعله يصحو من غفوة الطمع يوما ويعطي معوزا مده يده إليه لكي لا تموت مروءة الناس وتتبدل بلؤم الطبع وسوء المعشر . فخير لك أن تخطيء في العطاء من أن تصيب في المنع كما قال الشعراوي رحمه الله !
هذا السائق الذي جمعني به قدر ذلك اليوم قدّم تصورا عن واقع الناس وأعطى انطباعا سلبيا بأن أمور الناس ليست بخير، وأن هناك حاجة لتعديل سلوكنا وقوانينا ونفوسنا لتستقيم منظومة الحياة بحق وإلا ستنهار القيم ونصبح مرتعا للرشوة والخراب والباطل . وعندها ستدنس سجادة الصلاة بأقدام الذنوب ولا يقبل منا السجود ولا الركوع.
وصلت بيت الشيخ في قمة الجبل ولم أجده هناك وطلبت من إخوتي أن أوصلوني على الفور لقبره لأهيل عليه الدعاء والبكاء وذهبنا للحفرة المرموق جانبها مقابل القلعة والتاريخ وما استطعت عن أتكلم بشيء يذكر فما بيني وبين الشيح صاحب العصا عظيم وكبير لا يحيط به وفاء لذمته. فقد تربيت على خشونة يديه رحمه الله حتى صنع مني مغامرا في الدنيا مرتحلا مجابهاً قسوتها فكنت ابنه بحق.
فوالله لا أنساك ما هبت رياح الصبا يا صاحب العصا .ولا أسلو عن طيب ذكراك ما عشت أبدا.
يا من كنت سبب وجودي في هذه الدنيا .و لعمري فقد عشت كريما ومتّ حميدا ولم تطق أن تصب من غرور الدنيا وزيفها ..فإذا استذكرت هذا منك حضرني قول أبي الطيب المتنبي