لا أتخيل ان هناك مواقفا أصعب من ان تتسرب إلى اعماقك جل الأحزان من فقدك من تكن لهم المودة والقربى في حياتك لأنهم يشكلون بصمات تذكر لا يمحها الزمن ببعده وقربه.
العم العزيز الداعية الشيخ علي جديع القرارعه (أبو هيثم ) يغادرنا قبل اسبوعين إلى مكان فيه الحق والعدل كله، فكأنه أسرع في الرحيل وأصبح في ذمة الله بدلاً من رؤية ما نراه كل يوم من القهر في غزة وفلسطين!.
ما علق بذاكرتي قبل أربعة عقود وتزيد في الطفيلة طفولة خشنة نشأة في قلب ضجيج الحارة وبيوت الرجال التي تعرف ما تعني أشجار الزيتون لاصحابها و مواسم الحصاد وصعود الجبال ووعورة الوديان وصوت الينابيع التي جفت … كنت أرى الدنيا في صغري تختلف عما هي عليه الآن وشتان ما بين جنان الماضي وإن بدت قاسية وما بين نيران معيشة الغرب في استراليا وإن بدت ناعمة هانئة!!
كان العم الجليل ابو هيثم صاحب ابتسامة دائمة مبشرة بالخير كله رحمه الله… ابتسامة دامت طوال عمره لم تتغير لأنه متميز عن أبناء جلدته من أبناء القرى لأن أغلب الناس تطفو الكشرة على محياهم بسبب شظف العيش القديم!. ولكأن هذه الابتسامة نعمة من الله وهبها إليه ليتمكن من الدعوة إلى الله بالحسنى والتذكير به وكانّه يردد ما قاله الحق عز وجل لسيدنا موسى يا موسى ذكرهم بأيام الله… هذا الشيح الجليل أفنى عمره وهو يتجول في رحاب المساجد ومن المشائين في ظلم الليل إليها وقلبه دائماً معلق بها حتى توفاه الله .
لقد حضر رحمه الله لتقديم العزاء يوم توفى ولدي قبل عامين ونيف وجلست بجانبه من مودة تمشي اليه وقال لي : يكفيك من الغربة ..أما حانت العودة الى مرابعنا وشجعني بطريقته الخاصة و ذكر تفاصيل عن قصة أحد الدعاة الإنجليزي الذي أسلم وأتى من أستراليا وعاش في الأردن ويتكلم لهجتنا وكان من رفاقه في الدعوة سنوات طويلة من الوعظ لبيان فضائل رسالة الإسلام السمحة كأنه أعطاني جرعة من آمال التغير ووعدته بما يلزم…
لكنه عاد وذكرني رحمه الله بقصة قديمة حدثت أيام طفولتي في الحاره القديمة فقد كان والدي رحمه الله عسكريا صاحب جأش وصفات لم أجدها إلا عند نفر قليل يشبهونه رحمه الله ولكن قليلا من سلوكنا لا يرضيه وقتها ….لانه كان كالمسطرة لا يحب العوج ولا صاحبه حتى صغار الحارة مثلي الذي لا يطيعون الأوامر بدقتها.. ففي ذات يوم واجهت يوماً عسيرا وعقابا شديدا لم اكن اتوقعه وفي تلك اللحظات العصيبة خرج الشيخ الجليل أمامي فجأة وكانت وجهته إلى المسجد وكأن أحداً استدعاه من بعيد ليساعدني ويخفف من وقع عود من الخيزران الذي نال من جسدي النحيل يومها!! ذلك العود قد رص الثوابت في جسدي و مكث في عقلي وإفادني في الحياة دروسا لم أتعلمها بأرقى الجامعات في استراليا وليت العود بقي وليت اليد التي كانت تمسكه بقيت لاشبعها التقبيلا… وليت الجليل يعود لنرى بسمات تغيب ونحن أحوج اليها!!..
ما اذكر ه من حصيلة الذكريات المنسية أنني احتميت مرتين بالشيخ الجليل في طفولتي متواريا وراء ظهره وما كنت أسمع منه غير( اتقوا اذهبوا للصلاة …لا حول ولا قوة إلا بالله.. والله المستعان ) … رحمك الله ايها الشيخ الجليل وادخلك برحمته الجنان الوارفة فما كنت تنتظر مني او من غيري رثاء ولا مديحاً وأعلم انك متقين بأن ما عند الله ابقى. إن مثلك ايها الجليل يستحق الرثاء والبكاء على فراقه والدعاء له فقد كانت بسمتك دائمة حاضرة ومفتاحا للقلوب والدعوة إلى الله وذكرت الناس بأيام الله فجزاك الله خير ايها الشيخ الجليل وتغمدك الله بواسع رحمته وغفرانه يا صاحب البسمة التي غيبها الموت.