في منتصف السبعينات مشيت أنا وأقراني من أبناء الحارة الى مدرسة الشيخ احمد الدباغ رحمه الله في الطفيلة وكان مبنى صغير قديم ومستأجر مبتدئين رحلة العلم والتعلم في الصف الاول الابتدائي بأحرف العربية الاولى (أ-ب -ت) وأول من استقبلنا الأستاذ المرحوم شعبان المر طيب الله ثراه وبدأنا النقش في الحجر وقال لنا بصوت جهور: رددوا يا أبنائي بصوت عال ورائي أ ..ب …. وكانت أولى خطوات الحبو في المدارس على يديه رحمه الله..
ذكريات مطبوعة على جدران القلب النابض بالوفاء ولم أنساها مطلقا حتى بعد أن تجاوزت الخمسين من عمري وعندما علمت بوفاته قبل عدة سنوات بكيته بحرقة رغم مرور عقدين ونصف على وفاته رحمه الله مما جعلني أسيء للغربة وأعيب عليها الغياب …وأسدي لها النقد الشديد وعميق العبارات وأقساها فهي من حالت بيني وبين الكثير ممن يهمني أمرهم بل أعاقت دروب تأدية الواجب في الأعناق وكيف تكون دروب الوفاء بما ينبغي لها أن يكون.
إن المرحوم التربوي شعبان المرّ (ابو هيثم) أستاذي الأول، كان جارنا في الحارة الطفيلية بجوار المسجد العثماني القديم والذي بني من الطين ومن مداميك الحجارة الصلبة القوية والذي جارت عليه فكرة التوسع وهدموه في بدايات الثمانيات وأصبحت مكانه الطوابق التي يعلوها المسجد .
قد يعاب علينا التفريط بالإرث ومكونات التاريخ ويهون علينا كل القديم وكل ما نحتاجه مراجعات للمحافظة عليه قبل التخطيط للوصول للحداثة المزعجة أحياناً . ففي استراليا القانون يمنع هدم البيوت القديمة حتى الأشجار التي فيها وان أرادوا هدم بيت استمروا بالاجراءات سنوات طويلة وأخيراً لا يهدم هذا البيت بقرار من المحكمة بالاجماع للحفاظ على تاريخه ولذا ترى مبنى قديمة تاريخيّة في قلب المدينة الحديثة وبيوتها القديمة جزء من ملامح مديننتي سدني وملبورن وغيرهما.
كنت من جيل يهاب الاستاذ ويحترم الجار ويطيع والديه بالفطره وكنت اهاب استاذي شعبان المرّ رحمه الله وأحترمه كوالدي رحمهما الله لدرجة انني كنت اغير طريقي عندما اره من بعيد و أغير صفي اثناء الصلاة في مسجد الحارة القديم لكي لا ارجف بسبب وجوده بجواري! كانت في ملامحه الرجولة بكل تجلياتها فهو ابن الخليل ويطا العزيزة علينا وكان والديه يأتون من يطا القريبة من الخليل لزيارته يحملون من خير أرضهم في فلسطين في أيام الصيف الجميل واذكر والديه الكرام وملامحهم وقاماتهم البهية واذكر تفاصيل لباسهم الفلسطيني الجميل فهم من كرام الناس رحمهم الله جميعا فهم وجوها مضيئة من أرض الخير والعطاء في فلسطين وهذه الذكريات جميعها كانت وهجا دفعني لأكتب رواية اهل الجرح ذات يوم قبل عشرين عاما عن أهل فلسطين.
كان الاستاذ شعبان صلباً شديدًا كسائر رجالات عصره مخلصا في العطاء الى حدود بلوغ العطاء وكريم النفس ، كنا نعيد الكتابة بأمره عشرات المرات ننسخ الكلمات خمسين ومئة مرة وكان رحمه الله يمسك القلم ويقول امسك هكذا اكتب على السطر هكذا… كنا نظنها قسوة وقتها لكن ما عرفنا معنى الاخلاص بالعطاء الا عندما كبرنا!. فأهل العطاء غيبهم الموت وتركونا نقتفي آثارهم جزاهم الله عنا خير الجزاء.
ستأتي الأيام وهي دول .. وسيطوف طائف في يوم من الأيام بين أرجاء الضفتين على نهر الاردن الخالد ويذهب الغرباء يوما بلا رجعة ولن يعودوا، وسنحمله رسالة من كل الآباء والرجال الأوفياء فيها التفاصيل من الود و في طيات أحرفها كلاماً وسلاماً على من رحلوا وتركونا نعيش اجمل اللحظات واعزها بذكراهم .
إن جيل الاستاذ الراحل هو جيل والدي جيل الصبر الجميل الذي لن يتكرر مرة اخرى وستروى القصة تلو القصة عنه لكل المنصفين من أمتنا وابناء جلدتنا بأن معلمنا شعبان كان أبا حنوناً رائعاً فقد كانت ابتسامته غير ظاهرة كان يخفيها فكانت تخاف ان يسقط الكبرياء من موضعة، فقد عاش كريماً وبذل العطاء كله بلا حدود وقدم كل ما لديه لأجيال وأجيال عبر اعوام طويلة. وأسال الله الكريم ان يرحم عمّنا واستاذنا ابو هيثم ويكرم نزله وجزيه عنا خير الجزاء.