هذه القصة انتهت مؤخراً ، تعرفت قبل (٢٥) سنة بالصدفة على ستيني قدم للجامعة لتسجيل ابنته بعد مرور شهر من الدوام الجامعي بعدما أن قبلت في جامعة أخرى تخصص تربية طفل و يريد تسجيلها لغة عربية في الجامعة البعيدة عن سكناهم للاستفادة من إختيار تخصصها الذي ترغب دراسته ، فساعدته وذهبت معه إلى دائرة القبول و التسجيل في نفس الجامعة و عندما أخرج كشف العلامات لكي يعطية المسجل في الدائرة، تفاجأت أن ابنته معدلها ٧٧ % وأنها حصلت على علامة عالية جدا في مادة اللغة الإنجليزية ٩٥ % آنذاك و هي علامة خيالية في ذلك الوقت ، فقلت له سجلها لغة إنجليزية، فلم يعجبهما التخصص لصعوبته وفق الوالد ، فقلت للمسجل:" حرام عليكم سجلوها إنجليزي علامتها مرتفعة في الإنجليزي سوف تبدع" ، فأجاب المسجل:" بسخرية شو رايك تجلس محلي هذه رغبة الوالد و البنت هيك بدهم يسجلوا لغة عربية.
أوضحت لهم أنها سوف تبدع وعلامتها يدل على تفوقها، وأخيراً استجابوا و سجلوها كما نصحتهم ، وقتها طلب المسجل أن تلتحق مباشرة بالمحاضرات كون الدوام الجامعي مضى عليه شهر ، فتعذر الوالد أن ابنته ليس معها ادوات السكن من غطاء وغيره ، سوف يرجع إلى محافظته لإحضارها ، فاوضحت أن هذا الأمر صعب عليه ، وسوف نؤمنها بغطاء وفراش جديد لزميل لي احضره معه حديثاً وبدلاً من ذلك سوف أعطي ذلك الطالب من فراشي القديم إذا استدعى الأمر ، و بالفعل داومت الفتاة والتحقت مع الطالبات في السكن، بينما نام والدها عندي .
وفي اليوم التالي أتى شقيقها ومعه سيارة بالأدوات وحاجيات شقيقته وارجعوا لنا ما أعطيناه للفتاة، حيث غادرا بعدما شكروني على حسن التعامل والضيافة ، بعدها أصبح الوالد يزور الجامعة بين الفينة والأخرى لتفقد ابنته، ومن ثمّ يزورني ونجلس مع بعض ولكنه يغادر ولا يوافق على المكوث في سكني ، حيث أصبح معه سيارة وأضحت بيننا علاقة استمرت بعد التخرج حتى وقتنا الحالي .
حيث تخرجت ابنته انذاك وحصلت على المركز الأول في تخصصها و تزوجت إبن عمها و سافرت مع زوجها خارج الأردن وأصبحت مترجمة للغة الإنجليزية في أحد المواقع الإخبارية العربية .
بعد مرور سنوات طويلة ، أصبحت أتصل مع الوالد على هاتفياً ، لأطمئن عليه ، فقد أضحى في العقد الثمانين من عمره ، حيث تعمقت العلاقة بيننا وقمت بزيارة لهم في بداية زواجي ، لحضور بعض المناسبات، و تارة أخرى زيارة تفقدية ، حيث قدموا لي النقوط وأنا في بيتهم ، كوني تزوجت على الصمت بسبب وفاة والدتي رحمها الله .
كما حضرت جنازة إبنه قبل (١٠) سنوات ، حيث وقتها ذهبت إلى بيته لتعزيته، قيل لي أنه مريض لم يحضر الجنازة ، وشعرت وقتها أن الوالد والأبناء يخفون أمراً ما ، فقد بدت مشاعر الأب عادية غير متأثرا على إبنه و هذا ما لفت انتباهي وحيرتي ودهشتي ، بينما الأبناء كانوا يبكون ويتحسرون، تعرفت على إبنه الصغير و أصبحت اتصل معه بين الفينة والأخرى و عندما تعمقت صداقتنا بعد سنوات سألته عن عدم حضور الوالد لجنازة إبنه آنذاك ، في البداية تهرب من الإجابة و عندما اشعرته أن حديثه سوف يبقى في طي والكتمان؛ كوني من محافظة أخرى ، تحدث لي عن ذلك السر مؤكداً ومشدداً عليَّ أن لا أشعر والده أنني أعلم شيئاً عن قطيعته مع إبنه الراحل ، فقد أوضح أن هذه المسألة حساسة عند أبي، قائلاً :" كان أبي يحب أخي الكبير لدرجة أنه يفضله علينا، و لكن شقيقي البكر تزوج دون رغبة الوالد الذي كان يحجز له إبنة عمي بعدما أخبر عمي أن لا يزوجها ويحجزها لأبنه ، وسوف يغضب منه إن زوجها لآخر بحكم العرف العائلي السائد عندهم في ذلك الوقت .
و أضاف، قبل (٣٠) سنة ، حدث بين أبي وشقيقي خصام شديد بعدما تزوج أخي من فتاه من خارج عشيرتنا مع معارضة الوالد ، فقد غاب وقتها الوالد عن عقد القران و حتى الفرح ،وكان يحاول فسخ الخطوبة في أكثر من مرة ،فأبي متشدد في مسألة العادات و التقاليد و عملاً بالقول المأثور: "ابن العم ينزل إبنة العم (العروس ) عن الفرس”،، مشيراً أن شدة الخصام والقطيعة زادت بين أبي وأخي بعدما أنجب أخي الكبير الأبناء والبنات ، حيث تزوجوا الغالبية منهم دون حضور أبي، فقد كان يقاطع ولكنه يرسل لهم النقوط والهدايا معنا .
وأوضح أن جميع الأقارب أصابهم خيبة الأمل من المصالحة بينهما، فقد كان أبي عنيداً كصخر الصوان ، وعندما توفي شقيقي بحادث سير أثناء قدومه من الخارج ، لم يحضر والدي جنازته وبقي مقاطعاً له حتى أنه لا يعرف قبره ولا يرغب بزيارته و لا حتى يذكره بكلمة طيبة أمام الجميع ، و لما نذكر أخي أمام أبي يصرخ في وجوهنا و يكيل علينا الشتائم ويصرخ قائلاً:" أنا غضبان عليه ليوم الدين " .
فقلت له :" لقد صدمتني بوالدك الذي أعرف عنه الكرم و الطيب ، كنت أحسبه غير ما وصفته لي ، يبدو أن شخصيته غريبة وعناده وقطيعته لشقيقك مثيرة للدهشة والغرابة " فقال :" والدي ممتاز مع الجميع حتى أنه يعطف على أبناء أخي و يعطيهم الأموال، وكان يرسل معنا النقوط عندما يتزوجوا لكنه لا يحضر ، فقد زاد عناده على الكبر عندما دخل في العقد التاسع " .
وبعد مرور سنوات وفي شهر (٩) الماضي تحديداً ، جاءني مغلف من أحد المواطنين في الطفيلة لا أعرفه و عندما فتحته وجدت فيه مبلغاً من المال (٢٠٠) ديناراً ومكتوب عليه هذا نقوط قصي إبنك بمناسبة نجاحه في الثانوية العامة مبارك ، لم نكن نعرف، حيث قرأ أبني أسمه بالصدفة في قائمة الأوائل، كونه من أوائل الفروع في المحافظة و لم نكن نعلم ، وأن ظروفنا الصحية صعبة للقدوم و تقديم التهنئة معذرة " .
على الفور تحدثت مع الختيار معاتباً له لإرساله النقوط ، حيث اوضحت له أننا لم نحتفل بأبننا ونذرنا أن لا نأخذ النقوط من أي أحد عند نجاحه حتى أننا أرجعنا نقوط إخواني الذي تركوه على الكراسي بعدما رفضنا أخذه ، فظروف الناس صعبة وتزامن نجاح إبني قصي مع عدة مناسبات " .
كان رد الختيار قاسياً ، حيث غضب و قال:" لو قريب مني يا يوسف لأطرقك في العصا ، في ناس بردوا الهدية " شعرت أن الحديث صعب معه وتحفظت على المبلغ وشكرته .
وقبل شهرين زرت الختيار في بيته ، حيث استقبلني في بيته وكانت الختيارة تقوم بالإشراف على الطبخ ، و تناولت عندهم المنسف البلدي ، حيث حضر إبنه الصغير ومكثت عندهم ليومين بعدما طلبوا مني ذلك واستجبت لغاية في نفسي و هي كيفية إصلاح العلاقة بين الختيار وابنه المتوفي ، حيث مازال غاضباً عليه تجنبت عدم الخوض في ذلك ، فالختيار صعب جدا التعامل معه " .
وفي اليوم التالي طلبت من الختيار مرافقتي للمقبرة بذريعة زيارة أحد الأصدقاء، فشعرت أن الختيار يتهرب و لكنني اقنعته بعدما أحضرت الشعير والماء لوضعه على القبر ، حيث أنني ذهبت بالخفاء مع إبنه الصغير لقبر شقيقه وتفقده بعد كل السنوات لكي أعرفه من أجل الخطة والخدعة التي رسمتها في عقليتي للختيار ، وبالفعل ذهبت مع الختيار بسيارته الحديثة ولم اقتربت من قبر إبنه توقف مندهشاً لقراءة الإسم وفجأة أنفجر في وجهي قائلاً :" لقد خدعتني يا وغد يا خنزير جايبني على قبر هذا العاق ، هذا إبني العاق لم أحضر جنازته و لا حتى دخلت بيته منذ عقود ، كيف تتجرأ و تتدخل فيما لا يعنيك ، من الذي حكى لك عن إبني خليني أضربه وأقل قيمته ، فلما شاهدته غاضباً ويصرخ ويشتمني قلت له الخدعة في نفسي :" لم يحدثني أحداً يا حج لكنني شاهدتك في الحلم وأنت تضع الحطب على قبر إبنك وتشعل فيه النار وأحببت أن أنهي الخصام بينكم لكي يرتاح إبنك في قبره وترتاح أنت " .
وما أن أنهيت حديثي حتى ضربني في العصا على رأسي فتلقيتها بيدي وضربة أخرى على عجزي، فجرحت وسال الدم من يدي ، و عندما شاهد الختيار الموقف والدم ينزل من يدي، افترش الأرض وبدأ يلطم على وجهه قائلاً :" شو إلي عملته ، ضربت ابن الناس جاي علينا ضيف من الطفيلة لا حول ولا قوة إلا بالله من وين طلع علينا هذا الشيء " وبدأ يتحسر ويبكي فقلت له :" يا حج أنت بمثابة الوالد و ما قمت به من ضربي مسامحك و مش راح احكي لحدا وهذا سر بيننا و لكن أوعدني أن تصفح عن إبنك وتسامحه الآن" فرد قائلاً : أجلها يا إبني أنا تعبان ارجعني للبيت فوراً " .
شاهدته وكأنه أغمي عليه وربط لسانه ، فسارعت وحملته ووضعته في سيارته و قمت بقيادة السيارة بصعوبة، لأنها حديثة ومش متعود على قيادتها و ذهبت به للبيت .
وقتها تعلثم لسانه عن الحديث وجسمه عن الحركة وأخبرت الأبناء أنني ذهبت به لقبر ابنه لكي يصفح عنه لرؤيته في المنام و هو يشعل النار على قبره " وما أن انهيت حديثي حتى قام الأبناء بمعاتبتي، معقول أنت كاتب ومثقف!!! الولد الصغير ما بطلع منه يحكي هيك ، كيف بتحكي لوالدنا هيك سامحك الله ، عن جد أنت خربتها " .
وقتها نهض الوالد من غيبوبته وقال وهو يلوح بيده :" لا تحكو مع يوسف، أنا غلطت وضربته و يده تنزف دماً " .
كنت وقتها أخفي يدي في جيبي، فلم اخرجوها انتابهم الغضب على والدهم على فعله ، فقلت لهم :" لو سمحتم هذا بمنزلة والدي و عادي أنه يضربني أنا نيتي الإصلاح وجئت من الطفيلة لذلك الأمر بعدما شاهدت والدكم في الحلم وهو يحرق قبر شقيقكم " وقتها أسروا الأبناء على الذهاب بي إلى المستشفى لتصوير يدي والإطمئنان على صحتها، فقلت لهم:" والله ما فيها شيء، خلص وصلوني للمجمع أريد العودة إلى بلدي " ولكنهم أصروا و بعدما اطمئنوا عليَّ طلبت منهم المغادرة، حيث جاء الختيار و حاول أن يقبل رأسي و لكنني منعته و قلت له وأنا ابتسم ، :"مسامحك بشرط أن تقبل بإرجاع النقوط لك وقتها رفضوا، ورفضت الحجة قائلة :"هذول للولد مش محرزات" فأوضحت للأبناء وللحجة أننا نذرنا أن لا نأخذ نقوطاً وقتها اقتنعوا وغادرت إلى سكني بعدما ودعتهم.
بعد أسبوع من زيارتهم ، أتصل الختيار عدة مرات ، فأمتنعت الرد عليه ، خشيت أن وضعه الصحي تدهور ، فأتصل رقم غريب معرفا عن نفسه أنه صديقي ابن الختيار قائلاً:" والدي بسلم عليك وبده يزورك في الطفيلة حتى يستسمح منك ، فرديت عليه أنا صفحت عن الختيار بوقتها ولا تجيبوا سيرة لحدا عن الموضوع حتى زوجتي ما خبرتها شو صار معي وخلص انسوا الموضوع لا تحرجوني " . وقتها زوجتي سمعت المكالمة قائلة:" الله أكبر ما ظل إلا تروح على محافظة أخرى وتتدخل في الناس ، طلعت ضربة إيدك من الختيار ، ياريت تصلح حالك قبل إصلاح الآخرين " فرديت عليها وأنا شو مالي " قالت :" بتتدخل في كل شيء وبتنقلب عليك، وقف نصائحك وكتاباتك على الفيس التي لا تسمن ولا تغني من جوع ما بقرأها إلا كبار السن " .
وقبل شهر أتصل الإبن قائلا :" بدي ابشرك أخي يوسف الوالد يوميا بزور القبر وأصبح يتصدق عن روح شقيقي و يقيم الولائم، لقد تأثر كثيرا بحلمك الذي رويته له سابقاً " وقتها شعرت بالفرح الشديد ، وقلت له أن الحلم خدعة من الخيال ذكرته لوالدك لكي يهدأ ويتعقل لأنني علمت أنه عنيد جداً وصعب للغاية غير سهل وغير لين وليس بالهين و لا ينفع معه إلا الحيلة والخدعة لا تحكي له عن خدعتي له خليها سر يا صديقي " ، فبدأت أسمع الضحك على الهاتف من الجميع و عندما سألت أجاب:" إخواني والوالدة والوالد بسمعوا مكالمتك واضعها على السماعة الخارجية ، فقلت له :" فسحلت هسا الحج بجيني على الطفيلة ، الله يستر " فرد قائلاً :" بالعكس الحج بضحك بشكل هستيري ومبسوط منك ويقول:" الأستاذ يوسف المرافي مافي مثله ندرة ، خدعني بالخير حتى يصلحني مع أبني والحمد لله نجحت خدعته ، هذا مش طبيعي المرافي !!!! وين تعلم هذه الحكمة والبصيرة؟!!! " .
فأجبته في مدرسة والدتي ووالدي رحمهما الله ومخالطة كبار السن ، فشكروني وطلبت منهم بعدم الحديث والتطرق بما قمت به و عدم الإشارة لأي أحد تفادياً للإحراج لأنني ربما سوف أرويه في مقالة في المستقبل وأخفي شخصيات وأسماء ومكان الحادثة، لأن هدفي هو من أجل الموعظة وعدم القطيعة بين الأقارب وخاصة الأبناء والوالد حتى يرضى الله علينا ويرحمنا .