في سابقة فريدة من نوعها في تاريخ الرياضيات، تمكن العالم الروسي غريغوري بيرلمان من حل إحدى أعقد المسائل الرياضية في العصر الحديث، وهي "حدسية بوانكاريه"، التي طرحها العالم الفرنسي هنري بوانكاريه عام 1904، وظلت لغزًا محيرًا لأكثر من قرن. كانت هذه الحدسية واحدة من سبع مسائل عُرفت باسم "مسائل الألفية"، التي رصد معهد كلاي للرياضيات جائزة مالية قدرها مليون دولار لمن يحلها.
لكن المفاجأة لم تكن فقط في تمكن بيرلمان من برهنة الحدسية، بل في قراره غير المسبوق برفض كل التكريمات والجوائز، بما في ذلك أرقى وسام في الرياضيات، وسام فيلدز، وجائزة المليون دولار من معهد كلاي. لم يكن رفضه لهذه الجوائز بسبب عدم استحقاقها، بل لأنه لم يرغب في الانخراط في عالمٍ يصفه بالمليء بالحمقى والمتملقين، مؤكدًا أن الحقيقة العلمية والعمل الخالص للمعرفة هو ما يهمه، وليس الجوائز أو الاعتراف الاجتماعي.
عالم في عزلة.. عبقرية بعيدة عن الأضواء
بعد إنجازه الثوري، اختار بيرلمان العيش بعيدًا عن الأضواء، رافضًا عروضًا مغرية من كبريات الجامعات ومراكز البحث في العالم. بدلاً من ذلك، انعزل في شقة متواضعة في مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، متجنبًا أي ظهور إعلامي أو تواصل مع المجتمع العلمي. وصفه البعض بالزاهد في الحياة المادية، بينما اعتبره آخرون شخصًا غريب الأطوار، لكن الجميع اتفقوا على عبقريته الفذة التي أحدثت ثورة في الرياضيات الطوبولوجية.
رفضه للجوائز أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية، فبينما رأى البعض في قراره تحديًا للنظام الأكاديمي والمؤسسات العلمية التي تعتمد على الجوائز والتكريمات، اعتبره آخرون شخصًا غير مبالٍ بالاعتراف المجتمعي، مكتفيًا بشغفه الخالص للرياضيات.
إرث بيرلمان: أكثر من مجرد عبقري رياضيات
بغض النظر عن موقفه من الشهرة والتقدير، لا يمكن إنكار أن غريغوري بيرلمان ترك بصمة عميقة في علم الرياضيات. حلُّه لحدسية بوانكاريه لم يكن مجرد إنجاز تقني، بل فتح الباب أمام تطورات جديدة في الهندسة الطوبولوجية والنظرية الهندسية للمجموعات، مما أحدث تحولًا جذريًا في هذا المجال.
في النهاية، يظل غريغوري بيرلمان أحد أندر العلماء في التاريخ، ليس فقط لعبقريته الفريدة، ولكن لموقفه المبدئي الرافض للمال والشهرة، والمتمسك بالعلم من أجل العلم فقط. وبينما اختار العزلة، فإن إرثه العلمي سيبقى خالدًا، محفورًا في سجلات الرياضيات كواحد من أعظم العقول التي عرفها العصر الحديث.