بدخول العشر الأواخر من رمضان، يخفق القلب وتبتهج الروح، وكأنها تستشعر قدوم أيام ليست كغيرها، أيام تنبض بالرحمة والمغفرة، حيث تتنزل الملائكة، وتفتح أبواب السماء لمن أراد أن يطرقها. إنها لحظات لا تقدر بثمن، تحيط بها أسرار ربانية ونفحات إيمانية تجعلها أقدس أيام العام، وأثمن فرصة لمن يبحث عن القرب من الله.
"ليلة خير من ألف شهر"، هذه الكلمات وحدها تكفي لتأسر القلب وتوقظ الروح. كيف لا، وهي ليلة واحدة تزن عمرا بأكمله، ليلة تمحى فيها الأوزار، وتكتب فيها الأقدار، ليلة تنزل فيها الرحمة كالغيث على قلوب المتضرعين، فتمسح أوجاعهم وتحيي أرواحهم.
أي سر هذا الذي يجعلها أعظم من ثلاث وثمانين سنة؟ وأي كرم هذا الذي يمنحه الله لعباده في ساعات معدودة؟ إنها ليلة اختصها الله بعظيم الفضل، فجعل العبادة فيها مضاعفة، والدعاء مستجابا، والذنوب مغفورة، فكيف نغفل عنها، وهي قد تكون بابا لحياة جديدة مليئة بالنور والقرب من الله؟
حينما كانت تدخل العشر الأواخر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتد في العبادة، وكأنه يودع رمضان بروح ملؤها الشوق لله. كان يوقظ أهل بيته، وكأنه يريد أن يشركهم في هذه النعمة العظيمة. فما أجمل أن نقتدي به، فنغتنم هذه الأيام بالصلاة، والقيام، والدعاء، والتوبة الصادقة، وكأننا نقول: "يا رب، لن ندع هذه الأيام تمضي دون أن نخرج منها بقلوب نقية ونفوس مطمئنة".
ومن رحمة الله بنا أن جعل لهذه الليلة دعاء خاصا علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عندما سألته: "يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟" فقال لها: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني."
إنها أيام تتنزل فيها السكينة، وتغمر القلوب بفيض من السلام، فمن ذا الذي لا يشتاق لأن يكون من عتقاء هذه الليالي؟ ومن ذا الذي لا يتمنى أن تمحى ذنوبه في لحظة غفران إلهية؟
ما أجمل أن تظل طوال العشر الأواخر تترقب ليلة القدر. لا تنتظر علامة ظاهرة أو شعورا داخليا يخبرك بأنها قد حانت، بل اجعل كل ليلة من هذه الليالي ليلة قدر، ادع الله كأنها الأخيرة، قم للصلاة كأنها الفرصة الوحيدة، استغفر، تصدق، أصلح قلبك، وأطلق العنان لدموعك أن تغسل همومك.
ليست ليلة القدر مجرد حدث نترقبه، بل هي درس عظيم أن الخير قد يكون مختبئا في لحظة غير متوقعة، وأن الله يمنح بركاته بطرق لا ندركها، وأن كل دعاء يرفع في هذه الليالي قد يكون بداية لتحول عظيم في حياتنا.
سترحل العشر الأواخر، وسيغرب هلال رمضان، لكن الأثر سيبقى. من ذاق لذة القرب من الله، لن يرضى أن يعود إلى الغفلة، ومن عرف معنى السكينة في السجود، لن يستبدلها بأي متاع زائل.
فلنجعل العشر الأواخر بداية لروح جديدة، قلب متجدد بالإيمان، ولسان لا يكف عن الذكر، ولنجعل ليلة القدر نقطة تحول تضيء لنا طريق العمر كله.
اللهم لا تحرمنا فضل هذه الليالي، واكتب لنا فيها الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وبلغنا ليلة القدر وأنت راض عنا.