من يعبث بنا؟ نحن، دول اقليمية وظيفية، مليشيات وظيفية، أم قوى خارجية؟
قبل أسبوع قرأت رواية "Beloved" لتوني موريسون، تلك التي تنبش في الذاكرة الجماعية للجراح العميقة وتفضح كيف يمكن للمجتمعات أن تعيد إنتاج ألمها عبر السرد والسكوت معًا.
وبعدها وقعت يداي على كتاب "الهويات القاتلة" لأمين معلوف، فمضيت عطلة نهاية الأسبوع في إعادة قراءته، ذلك ٫انني قرأته قبل ذلك مرتين. وأثناء القراءة تداخلت عوالم موريسون التي كشفت آليات القهر والتهميش مع فكرة الهويات التي تُقتل حين تُختزل أو تُستثمر سياسيًا.
وأثناء القراءة، بدأت أفكر في تطوير فكرة معلوف نحو بحث لا يكتفي بتحليل الهويات القاتلة، بل يتتبع من يغذيها إقليميًا ويستثمرها دوليًا، وكيف تُدار هذه العملية ضمن ما يسميه بعض المفكرين "هندسة التجهيل" (Agnotology)، أي صناعة الجهل المقصود، حين تخفى الحقائق وتشوَه المعارف لتوجيه الوعي الجماعي. عندها أدركت ما كنت أعرف، فمعركتنا الأولى ليست سياسية بقدر ما هي معرفية، معركة ضد الجهل والتجهيل، وضد هندسة الوعي التي تجعل من التضليل نظامًا ثقافيًا قائمًا بذاته يمارسه الجميع، سواء من هم في الحكم أو من يعارضوه.
يبين إطار أمين معلوف كيف يمكن للاختزال الأحادي للهوية أن يتحول إلى آلية عنف وتفتيت للمجتمع، ما يجعل تحليلاً على هذا الأساس مفيدًا لفهم ما يجري في منطقتنا. فما نشهده من تفكك هو ثمرة تلاق بين ثلاثة عوامل متداخلة:
- عناصر محلية عميلة على شكل نخب وفصائل تستثمر الانتماءات الضيقة لترسيخ نفوذها داخليًا.
- دول إقليمية تدفع بالأموال والسلاح والإعلام لإبقاء ساحة التوتر حية بما يخدم حساباتها والأدوار المنوطة بها من قبل مركز السياسة العالمي. هذه أنظمة وظيفية ترى بأن البقاء السياسي لها مرتبط ليس بارادة الشعب بل بموقف واشنطن.
- عامل خارجي يستثمر التناقضات، فهناك قوى كبرى تستثمر الفراغ والانقسام لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى.
من المهم الإشارة أن هذا التفتيت لا يبقى محليًا فقط، بل يتحول إلى موضع استقطاب اقليمي تستثمره مشاريع خارجية تضعف من امكانية تكامل الجوار ويسهل لجهات مثل إسرائيل تحقيق نفوذ إقليمي أو الحفاظ على تفوّق جيوستراتيجي.
وعلى شان ما حدا يحكي كيف نحل هذه المعضلة، أقول بأن الخلاص في مواجهة التفكيك والتفتيت يستلزم إعادة تعريف الهوية كفضاء تكاملي لا كسلاح تفريق.