في ظل التطور والتقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم على كافة مناحي الحياة المعرفية والثقافية والتعليمية والاقتصادية، ربما نرى ثمة علاقة ما بين هذا الوافد الجديد «الذكاء الاصطناعي» والشأن الثقافي وقضايا الهوية الثقافية وتنوعها المعرفي وثقافة كافة الشعوب كما يراها الباحثون، ولا بد من الوقوف على هذه الجوانب والكشف عن الخفايا والمعضلات والتحديات التي انبثقت مع عجلة هذا التقدم والتطور التكنولوجي للذكاء الاصطناعي.
من هنا، يتساءل الإنسان العربي كيف يمكنه مجابهة ما يشهده العالم من تكنولوجيا الذكاء، وبنفس الوقت كيف يمكن للمجتمعات العربية وحواضرها الاستفادة منه والعمل على المحافظة على خصوصية هويتنا العربية الإسلامية وصيانتها من كل المخاطر، وخاصة ما نتعامل به من نظم تتشكل وتقوم بالدرجة من خلال ما يقدمه الذكاء الاصطناعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها على الفرد والمجتمع.
ضمن هذا السياق وما سبق الإشارة إليه توقفنا مع ثلة من الباحثين والمفكرين المشتغلين في مسألة الذكاء الاصطناعي وطرحنا أسئلة حول توفق الذكاء وقدرته النافذة على الذكاء البشري، ومستقبل هذا الذكاء وتأثيره على الإنسان، وكذلك قدرته التأثيرية على التعليم والفكر والأدب والفن.
زهير توفيق
الشاعر والمفكر الدكتور زهير توفيق، يرى أن تفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري ومخاطر السيطرة على البشر، قضية جدلية أخلاقية مثيرة للاهتمام، وليست قضية علمية من حيث المبدأ، فلم يستنفد التفكير والذكاء البشري إمكانياته الخلاقة ليستسلم ويتحول إلى موضوع، ولا الذكاء الاصطناعي حقق كل ما وعد به، حتى نعقد المقارنة والموازنة بين الطرفين، والتساؤل في الموضوع يخفي قلقاً وتخوًفاً للعاملين في القضايا الثقافية والعلوم الإنسانية على مكانتهم ومنتوجهم الفكري خاصة مع انتشار التطبيقات الحديثة للذكاء الاصطناعي القادرة على إنجاز عمل بحثي معين بمواصفات عالية في شتى المعارف والفنون.
ولفت النظر إلى أنه من حيث المبدأ ورغم تفوق الذكاء الاصطناعي في معالجة البيانات بشتى أشكالها وأحجامها، وتقديم الحلول على أساسها؛ إلا أن الذكاء الاصطناعي لن يصل إلى مستوى العقل البشري لاختلاف طبيعته وتكوينه، فلسنا من دعاة الأسطورة العلمية القائلة إن الإنسان لا يشغّل ولا يستغل إلا 10 % من طاقته التفكيرية، وهي نظرية (علموية) وليست علمية من مخلّفات النصف الأول من القرن 20، إلا أن العقل أو الذكاء البشري يتفوق بالتفكير الكلي الاستدلالي وتكامل قوى العقل البشري، من العقل الشعوري إلى العقل المعرفي في مواجهة أي مشكلة أو ظاهرة، وما زال الدماغ البشري بما يملكه من مليارات الخلايا العصبية يثير دهشة العلماء والمختصين، وهم على يقين بقدرة هذا الجهاز على إدهاشنا المتواصل ولا يتوقعون أن تتوقف قدرة 100 مليار خلية على إنجاز ما هو خارق وأكثر من الذكاء الاصطناعي نفسه.
وأضاف: صحيح أن هناك مجالات معينة يتفوق بها الذكاء الاصطناعي على البشر لكن هذا التفوق نتاج جهد بشري عبقري من خلال برمجة متفوقة في موضوع معين. ومن الصعب التسليم من الآن وحتى مدى متوسط بتفوق الذكاء الاصطناعي في مجالات أعقد على الذكاء البشري في الإبداع والفن والتفكير النقدي والاستراتيجي، وأي مخرجات خاصة تتعلق بالإنسان ككائن حر صاحب إرادة واختيار ومبادرة ذاتية لا تحتاج لبرمجة خارجية، مشيرا إلى أن الذكاء الاصطناعي والروبوت التفكير يمكن تسخيرهما في مسألة محددة والتوصل لحلول رياضية أو كمية، والمساعدة في الكشف والابتكار، لكن، من المستبعد أن ينتقل الروبوت بالذكاء الاصطناعي إلى مستوى التفكير في التفكير وأن يقدم حلولاً نوعية لمشكلة الإنسان الوجودية.
إيهاب البشبيشي
الشاعر والكاتب المصري إيهاب البشبيشي تحدث عن برامج الذكاء الاصطناعي وما فعله على الإنسان من تأثير ومحاكاة، فذكر أن الذكاء الاصطناعي هو مجموعه من البرامج التي بدأ تطويرها في السبعينيات من القرن الماضي والتي لديها القدرة على استيعاب قدر أكبر من البيانات واستخلاص المعلومات من خلال هذه البيانات بشكل سريع تطور بعد ذلك إلى محاكاة استراتيجيات التفكير لدى الإنسان بحيث يمكن لمثل هذه البرامج اتخاذ القرارات بمواءمات معينة وبناء على أسس تفكير معدة سلفا.
وفيما يخص برامج التعلم الذاتي والتعليم العميق ومساهمة هذه الاستراتيجيات في صناعة البرمجيات، أكد البشبيشي أنها أكسبت برامج الذكاء الاصطناعي القدرة على محاكاة الإنسان محاكاة تكاد تقترب من التطابق خصوصا بعدما أوشك الانتهاء من محاكاه اللغات الطبيعية فأصبح باستطاعة هذه البرامج فهم اللغة البشرية، بحيث إنه – كما يرى - أصبح المتعامل مع هذه البرامج من خلال أجهزة الحاسبات لا يستطيع التفرقة ما إذا كان من يجيب عليه هو إنسان أو آلة، ويمكن أن نتخيل الأضرار التي تلحق بالبشر من خلال استخدام مثل هذه البرامج، أولا سيتم الاستغناء في القريب العاجل وربما في السنين العشر القادمة عما يزيد عن نصف العمالة أو ربما ثلاثة أرباع العمالة البشرية التي تعمل بأعمال كالسكرتارية والتعليم والأعمال الروتينية كعمال محطات البنزين أو صيانة الآلات، ويمكن أن تستغني ببعض الروبوتات التي تعمل بهذه البرامج حتى عن بعض الأطباء في إجراء جراحات ما أو في التشخيص.
وبما يخص يتعلق بالشأن الثقافي وأبعاده، رأى البشبيشي أنه ستكون هناك أبعاد عميقة لأن الأثر الاجتماعي لزيادة البطالة والأثر الاجتماعي لتولي مثل هذه البرامج عمليات التعليم بدلا من المدرسين والآثار الاجتماعية على الأطفال التي تعلمها هذه الأجهزة ستكون آثارا كبيرة وعميقة، وعلى الأقل تتسّيد ثقافة ما على عقول هؤلاء الأطفال وهي الثقافات التي تمت برمجة هذه البرامج عليها، أما عن قدرة هذه البرامج على محاكاة الإنسان في الإبداع فهي إلى الآن قدرة قليلة لكنها ستكون كبيرة جدا فيما بعد.
وأكد: في تقديري أن هذه البرامج ستقوم بإنتاج مواد ثقافية مثل الرسم والنحت والتصوير وكتابة القصة والرواية والرسوم المتحركة وحتى صناعه الأفلام، ويمكن أن تمتد المسألة إلى كتابة الشعر، ولن يفرق القارئ ما إذا كانت هذه المنتجات الأدبية والفنية هي منتجات بشرية بحتة أم أنها منتجات آلية، ونحن نرى الآن بعض الكتاب الذين يستعينون بهذه البرامج في إنتاج ما يكتبونه، أي أن البعض منهم يستعين بالبرامج في عمل مسودة سريعة ثم يبدأ بالتعديل على هذه المسودة، ونحن نرى ذلك الآن وستتسع هذه المسألة إلى أن يتم الاعتماد عليها بشكل كبير وستنحسر دائرة الإبداع البشري الثقافي إلى أضيق الحدود لأن الإبداع البشري الثقافي يحتاج دُربة ويحتاج رهافة بشرية، وهذه البرامج توفر البديل السريع الذي لن يتعب فيه منتجه وسيتجه الإبداع البشري نحو تطوير برامج أكثر كفاءة.. وهذا هو مصدر الخوف.
ودعا المؤسسات التعليمية والمعنية أن تبدأ فورا في إنتاج برامج ذكاء اصطناعي عربية لأنها هي المستقبل ولو لم نمتلك القدرة على إنتاجها فلا مكان لنا إلا خارج التاريخ والحضارة.
مجدي ممدوح
المفكر مجدي ممدوح تساءل بدوره عن «مستقبل الذكاء الاصطناعي: هل سيتفوق على الذكاء الإنساني؟». وبيّن: تعيش التكنولوجيا والابتكار في عصر يشهد تطورًا سريعًا في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كان سيتفوق على الذكاء الإنساني في المستقبل، لافتا النظر إلى أنه في الوقت الحاضر، يتفوق الذكاء الاصطناعي في مجالات محددة مثل معالجة البيانات الضخمة والتعلم العميق، وهو يُستخدم بشكل واسع في تحسين الإنتاجية وتحليل الأنماط. لكن هل سيصل يومًا ما حيث يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على تجاوز الإنسان في فهم العواطف، والتفكير الإبداعي، والتفاعل الاجتماعي؟
وأشار إلى أن هذه القضية تبقى محل جدل. وقال: بعض الخبراء يرون أن الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى مستويات يتفوق فيها على البشر في بعض الجوانب، خاصة مع استمرار التقدم في تطوير الخوارزميات والشبكات العصبية. ومع ذلك، يُشدد آخرون على أن الجوانب الفريدة للذكاء البشري، مثل التفكير الإبداعي والقدرة على فهم العواطف واتخاذ قرارات أخلاقية، قد تظل خاصة بالإنسان.. ومن المهم أيضًا النظر إلى التطورات بمنظور إيجابي، حيث يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية، مثل البحث الطبي وتطوير الطاقة المستدامة.. يبدو أن مستقبل الذكاء الاصطناعي سيكون محل تفاوت. قد يحقق التقدم الهائل في هذا المجال تحسينات كبيرة في حياتنا، ولكن يجب علينا النظر بانفتاح وحذر إلى التأثيرات المحتملة على البطالة، والأخلاق، والعلاقات البشرية.
ركاد الحديد
الكاتبة والباحثة ركاد الحديد أخذت قضية الذكاء الاصطناعي من حيث تآكل الإبداع الإنساني تحت هيمنة الذكاء الاصطناعي فذكرت أنه لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية نستخدمها في التنظيم أو البحث أو تحليل البيانات، فقد تجاوز دوره الوظيفي ليدخل مناطق كانت يومًا حكرًا على الإنسان، مناطق تعتمد على الروح، على الذاكرة، على الألم، على التجربة، على المشاعر التي لا تُترجم إلى خوارزميات.
وقالت: مع هذا التوسع، بات السؤال الذي يفرض نفسه: هل يقتل الذكاء الاصطناعي الإبداع البشري؟ سؤالاً جوهرياً.. الجواب، كما يبدو اليوم، يقترب من «نعم» أكثر مما نريد الاعتراف به.
وفيما يتعلق بالإبداع بيّنت أنه في عالم الشعر، والقصة، والرواية، والإعلام عالم الكلمات التي تحمل نبض أصحابها يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى منافس شرس، بل إلى بديل سريع يعمل بلا إحساس، بلا صوت، بلا بصمة إنسانية. وهذا البديل، رغم قوته، يهدد أهم ما في الإبداع: جوهره الإنساني.
وأوضحت أن الشعر ليس كلمات موزونة فقط، ولا استعارات مصنوعة بإتقان تقني. الشعر هو (حياة مصفّاة)، كما يقال. هو إحساس يتشكل من الألم والفرح والحزن والحنين والضياع والذكريات وكل الاحاسيس الإنسانية.. لكن الذكاء الاصطناعي، رغم قدرته على إنتاج قصائد كاملة، يكتب بلا قلب.. ينسج صورًا بلا تجربة، حديثه عن الفقد بلا فقد، عن الحب بلا حب، عن الوجع بلا جرح.. وهذا ينطبق على القصة والرواية، سرد بلا ذاكرة في الذكاء الاصطناعي، فالقصة والرواية عملان يقومان على التجربة قبل الخيال. هما انعكاس لتجارب شخصية، وذكريات، وصدمات، ورؤية للعالم. لكن حين يكتب الذكاء الاصطناعي قصة أو رواية، فهو لا يعيش شيئًا مما يكتب.
وفي مسألة الإعلام تؤكد الباحثة الحديد أنه في الإعلام، يتجلى الخطر أكثر وضوحًا... فالذكاء الاصطناعي قادر على كتابة الأخبار، والتحليلات، والتقارير، بسرعة تفوق أي صحفي.. لكن ما يكتبه يفتقد عنصرًا أساسيًا: المسؤولية الإنسانية.. لا يعرف الذكاء الاصطناعي معنى الحقيقة، ولا يدرك أثر الكلمة على الناس، ولا يشعر بثقل نشر خبر خاطئ، ولا يفكر بعواقب تضليل الرأي العام.. ولهذا، فإنه يفتح الباب أمام فوضى أخلاقية واسعة: أخبار زائفة، صور وفيديوهات مُفبركة، محتوى بلا مصدر، معلومات بلا تدقيق، تقارير بلا ضمير.
وخلصت إلى بيان مسألة في غاية الخطورة ألا وهي أن الذكاء الاصطناعي يكتب، نعم، لكنه يكتب بلا إحساس، بلا ألم، بلا حلم، بلا نزيف داخلي. ومحتوى كهذا، مهما كان متقنًا، لا يمكن أن يكون بديلًا عن إنسان عاش تجربته ثم صاغها في نص.. الذكاء الاصطناعي لا يطوّر الإبداع، بل يهدده إذا تركناه يحلّ محلّ الإنسان.. هو يكتب، لكنه لا يشعر. ينتج نصوصًا، لكنه لا يعيشها. يحاكي الأسلوب، لكنه لا يملك التجربة.عمر أبو الهيجاء "الدستور"