لقد عاد الثامن من ديسمبر العظيم، ستبقى هذه الليلة وهذا اليوم في ذاكرتي إلى الأبد، الليلة التي سهرتُ أتابع أحداثها لحظة بلحظة وأنا سعيد، أراقب تكذيب العبيد لسيدهم، وأشهد انهيار الصنم الذي ظنّ أنه باقٍ لا يزول، تلك الليلة التي داهمني فيها الفرح والسرور على غير عادته؛ فرحٌ لم أختبر مثله من قبل وانا في سن الرشد هذا ،نشوة من نوعٍ آخر، لا تشبه انتصارًا عاديا ولا نجاحًا عابرًا.
لبثتُ تلك الليلة أراقب شاشة التلفاز وأتابع هاتفي كأنني أمسك بطرف خيطٍ يصلني بقلوب الملايين، مشاعري كانت بين مُكذّب لما تراه عيوني وبين يقينٍ في داخلي يهمس: النصر قريب… قريب جدًا، وحين أشرقت شمس ذلك اليوم، حملت معها الإجابة التي انتظرها السوريون سنين طويلة: (لقد سقط الأسد)
ذاك الصباح…الصباح الذي انتظرته أعين السوريين، داخل الوطن وخارجه، في المخيمات والمدن المهدمة، وفي المنافي البعيدة، حمل شيئًا لا يوصف،
حين سمعتُ أذان الفجر في ذلك اليوم، كان صوته يدخل قلبي بطريقةٍ مختلفة، كأنها المرة الأولى التي أسمع فيها الله أكبر. فرددتُ خلف المؤذن، بصوتٍ مرتجف: الله أكبر… نعم، الله أكبر من كل الطغاة والمتجبرين.
لن أنسى شعوري ذلك الصباح، شعورٌ يشبه البيت الذي لطالما تمثّلته في قلبي كلما رأيت مشاهد السجون: "ودمعٌ لا يُكفكف يا دمشق" ذلك البيت كان خلاصة ما عشته، وما عاشه السوريون والعالم ذلك اليوم لم يكن هذا الفجر فجرًا عاديًا، بل كان عهدًا جديدًا مزّق سكون الليل، وأشعل نورًا لم اره منذ سنوات طويلة في هذا اليوم، لم تُطفأ العتمة فحسب… بل انجلت غيومها عن سماء الشام المباركة.
ومن بين تلك المشاعر، تبرز مشاعر السوريين جميعهم في الداخل والخارج، فمن كان في المدن المدمرة خرج إلى الشوارع يبكي، لا يدري أهو بكاء الفرح أم بكاء الذاكرة، والذين في المخيمات رفعوا رؤوسهم إلى السماء للمرة الأولى وقالوا: ربما سنعود، أما من عاشوا في المنافي، فقد شعروا أن المسافة بين قلوبهم وسوريا تقلّصت فجأة، كأن الأرض ضاقت على بعد الظلم واتّسعت لخطوةٍ نحو الحرية.
وفي سجن صيدنايا، في ذلك القبر الذي دفنت فيه أرواح وصرخات وأسماء، وصل الخبر بطريقةٍ ما وصل همساً أو نظرةً أو ارتجافةً في صدر أحدهم
ربما لم يحتفلوا جهارًا، لكنّ أرواحهم هزّت القيود، وشعرت للحظة أن الليل يمكن أن ينكسر، وأن الجدار الذي ظنّوه أبديًا قد بدأ يتصدّع.
ولم يكن ذلك اليوم حدثًا سياسيًا عابرًا، بل درسًا عميقًا في الوعي واليقين، فقد علّمنا الثامن من ديسمبر أن الظلم مهما طال ينهار، وأن الشعوب قد تُرهَق لكنها لا تموت، كان النصر يبدأ من لحظة سقوط الخوف، وكأن الطاغية الذي ظنّ أنه جبل لا يُهدم مجرّد بشر يسقط حين تنهض الإرادة، ذلك الفجر أكد أن الدعاء لا يضيع، وأن دماء الشهداء هي التي تكتب فجر الحرية، لقد أدرك السوريون أن فرحتهم لم تكن شماتة، بل احتفاء بفتح باب جديد نحو وطنٍ يستحق الحياة.
في ذلك اليوم أدركنا نعمة الأمن والأمان الذي نعيشه في بلادنا، أدركناها كما لا ندركها في الأيام العادية، حين رأينا شعبًا بأكمله يستيقظ على وطنٍ يتغيّر، ومدنًا كانت تبحث عن لحظة نجاة، فهمنا أن الطمأنينة التي نعيشها ليست تفصيلًا صغيرًا، بل كنزًا لا يشعر بقيمته إلا من فقده، كان الثامن من ديسمبر تذكيرًا صامتًا بأن الأمن ليس جدرانًا تحيط بنا، بل سكينة تُقيم في القلب حين يختفي صوت الخوف، ومع مشاهد الفرح والدموع في عيون السوريين، شعرنا بأن أكثر ما يستحق الشكر هو أن ننام بلا رعب، ونستيقظ بلا دخان، ونعيش يومنا بلا أن نتوقع فقدًا جديدًا، لقد كان ذلك اليوم درسًا بليغًا في قيمة الاستقرار، ونعمة السلام التي كثيرًا ما نغفل عنها حتى يطلّ علينا العالم من نافذةٍ أخرى ليقول: احمدوا الله على ما أنتم فيه.
وها نحن بعد عامٍ كامل نقف أمام الحقيقة الكبرى: التحرير لم يكن نهاية الحكاية بل بدايتها، عامٌ كامل بدأ فيه السوريون يلمسون الطريق الطويل نحو الشفاء، يعيدون ترتيب الخسارات، ويكتبون مقطعًا جديدًا من بلادهم
وعلينا فهم سنن التغيير، فالتغيير لا يولد دفعة واحدة، ولا يأتي مع لحظة عاطفية عابرة، بل ينبت ببطء في القلوب والعقول، حتى يكتمل نضجه وتتهيأ له النفوس، إن للأحداث مسارًا لا يتجاوز حكمته أحد، وللحياة إيقاعًا يذكّرنا دائمًا أن كل تحول يبدأ بخطوة صادقة، وبوعيٍ يتراكم، وبإيمانٍ بأن القادم—مهما تأخر—يحمل خيرًا جديدًا