لنفترض أننا بحاجة الى قانون انتخاب جديد وقد نكون كذلك، فما هو شكل هذا القانون الذي سينهي خلافنا الداخلي حول القانون الحالي والقوانين التي سبقته بما فيها قانون 1989 الذي يراه البعض نموذجيا، ويراه البعض الآخر متخلفا وغير عصري وان النجاح الذي حققه جاء بفعل نوعية المترشحين من جهة وحسن اختيار الناخبين من جهة أخرى وليس بسبب جودة القانون الذي لم يكن معروفا ولا مفهوما بالنسبة لغالبية الناس. وقبل ان نبدأ مرحلة من العصف الذهني المفيد حول القانون دعونا نحدد اولا ما الذي نختلف حوله في القانون المعمول به الآن ولماذا لا يعجب السواد الاعظم من المواطنين الباحثين عن عذر لهم بعدم المشاركة في الانتخابات ولاسباب لا علاقة لها بالانتخابات من حيث المبدأ وانما بالوضع العام في البلد او ما يعرف بالمزاج العام.
يبدو اننا لا نختلف الا على موضوعين اساسيين، الاول النظام الانتخابي بدءا بآلية الترشح، في قوائم ام بشكل مستقل وما اذا كانت هذه القوائم نسبية مفتوحة ام مغلقة، قوائم وطنية ام على مستوى المحافظات والدوائر المحددة..الخ. الشق الآخر من النظام الانتخابي يتعلق بعدد الاصوات الممنوحة للناخب، فكم من الاصوات يريد الناخب ليكون راضيا وتتحقق العدالة المرجوة من وجهة نظرة فيكون له عددا كافيا من الاصوات ليوزعها على القريب والنسيب والحزبي وشيخ العشيرة، ولكن ما هو المطلوب بالضبط، أن يرتبط عدد الاصوات بعدد المقاعد المخصصة للدائرة الواحدة، ام بالعدد المسموح به للترشح في القائمة الواحد ام يعطى جميع الناخبين نفس عدد الاصوات؟
النقطة الخلافية الاخرى هي نظام الدوائر الانتخابية، فما هو عدد الدوائر وما هو عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة انتخابية، هل نجعل المملكة كلها دائرة واحدة ام نقسمها الى دوائر ونأخذ الكثافة السكانية كمعيار وحيد لتحديد عدد المقاعد المخصصة لكل دائرة وهو مطلب لبعض الاردنيين، ام نعتمد المعايير العالمية في هذا الشأن وهي ثلاثة معايير، عدد السكان ضمن الدائرة، والمساحة الجغرافية للدائرة ثم مستوى التنمية في الدائرة وهذا ما تطبقة الدولة الاردنية على ارض الواقع مثلها مثل دول عديدة أخرى؟
فيما يتعلق بالموضوع الخلافي الاول المتعلق بالنظام الانتخابي فأنه يمكن الجزم ان الذين يعترضون على نظام القائمة النسبية المفتوحة على مستوى المحافظة - وهو النظام المطبق في الاردن - ويطالبون بنظام انتخابي آخر ،لا يستطيعون التقدم بمقترح يستوفي شرط قبول غيرهم بالنظام المقترح ،ذلك أن المعارضين للنظام الحالي ليسوا على توافق حول اي نظام انتخابي آخر ،ويرى كل طرف أن النظام الانتخابي الأفضل هو الذي سيوصله الى البرلمان متجاوزا معايير النجاح البديهية وأولها الشعبية المبنية على البرامج الانتخابية والحضور بين الناس اضافة الى معايير أخرى تتقدم على البرامج في كثير من الاحيان وفي مقدمتها الحضور العشائري ولن نتوانى عن ذكر المال السياسي ايضا.
وعند هذه النقطة بالذات لا توجد قواسم مشتركة يمكن أن يتفق عليها الجميع ،اي أن الاجماع على نظام انتخابي لن يتحقق حتى لو استنسخناه من احسن الانظمة الانتخابية العالمية ،فما يتحقق في نهاية المطاف اجماع متواضع تقبل به القوى السياسية على مضض، وقد اثبتت تجربة القانون الحالي ان التوافق الذي تحقق لم يكن واقعيا بدليل استمرار المطالبات بقانون جديد حتى من القوى السياسية التي شاركت في الانتخابات الماضية والتي شهدت مشاركة حزبية واسعة تمخضت عن فوز 37 حزبيا بمقاعد في مجلس النواب الثامن عشر. ولم يكن مستغربا ان الاحزاب التي حققت نجاحات مهمة في الانتخابات التي جرت على اساس القانون الحالي تدب الصوت مع العامة مطالبة بقانون جديد، اي انها غير راضية عما حققت ولا زالت تعتقد ان القانون الانتخابي حال دون تحقيقها لنجاحات أكبر، فالاحزاب تطالب بكوتا حزبية تماما كتلك التي تمنح للمرأة او للاقليات من مكونات الشعب الاردني!
الخاسرون للانتخابات والمحبطون من نتائجها والمقاطعون جميعهم يعللون ضعف الاقبال وتدني مستوى المشاركة بعدم جدوى القانون الحالي او اي قانون جرت الانتخابات النيابية على اساسة باستثناء قانون 1989 الذي افرز عددا من الشخصيات المعروفة بمعارضتها، ولكن دعونا نتحلى بالصراحة ونسأل عما اذا كان هذا هو سبب العزوف عن المشاركة في الانتخابات التي تلت العام 1989 ام ان هناك اسبابا أخرى ترتبط مباشرة بالديمغرافيا السياسية للمجتمع الاردني ؟
قد لا تكون نسبة المشاركة في الانتخابات في الاردن أمر نفاخر به، بل نجدها متدنية كما يراها اي مراقب للشان الاردني ،لكن تدني نسب المشاركة في الانتخابات أزمة عالمية، فما نعانيه من عزوف عن الانتخاب تعانيه دول ومجتمعات عديدة، ولكل مجتمع اسبابه وظروفه التي غالبا ما ترتبط بمستوى الرضى عن اداء ممثلي الشعب ومؤسسات الدولة. اما في الاردن فقد تكون لنا اسبابنا الخاصة وتتعلق بعدم الرضى عن االتشريعات الاصلاحية بشكل عام وفي مقدمتها الدستور، وعن نظام الدوائر الانتخابية تحديدا وحصة بعض الدوائر من عدد المقاعد حيث يرى المراقبون للحياة السياسية في الاردن أن هذا هو العامل الحاسم في تدني مستوى المشاركة الانتخابية، وهذا الموقف من نظام الدوائر لا يرتبط بالنظام الانتخابي ولا بعدد الاصوات الممنوحة للناخب، وإنما يرتبط بمشروع سياسي على صلة مباشرة بالضغوطات الدولية على الاردن لإحداث القفزة الأهم على طريق التوطين السياسي.
هذا هو التشخيص الواقعي للحالة بعيدا عن محاولات تحميل المسؤولية عن ضعف المشاركة للتشريعات تارة ولغياب الثقافة الانتخابية تارة أخرى وانعدام الثقة بالمجالس النيابية وتفشي المال السياسي والشكوك بنزاهة الانتخابات الى آخر قائمة طويلة من الاسباب .صحيح ان المواطن الاردني يعيش حالة من الشك وعدم الثقة والتردد حين يتعلق الامر بالانتخابات ،الا ان الحقائق الدامغة تشير الى عامل آخر لا تحب الدولة بمختلف مؤسساتها الاعتراف به علنا على انه السبب في تدني نسب المشاركة في الحياة السياسية الاردنية عموما وليس فقط بالانتخابات النيابية الا وهو العامل الديمغرافي ،فهو السبب وراء تعطل الحياة الحزبية ايضا ،والمقصود هنا شعور أكثر من ثلت مواطني المملكة الاردنية الهاشمية بانهم لا يمثلون بعدالة من حيث عدد المقاعد المخصصة للدوائر الانتخابية ،وبشيء من الصراحة فأن الاردنيين من أصول فلسطينية أو نسبة كبيرة منهم يرون ان حصتهم من المقاعد في مجلس النواب لا تتناسب مع عددهم، وان الدوائر الانتخابية تظلمهم من هذه الناحية، ويقال علانية ان بعض الدوائر الصغيرة في عمان والزرقاء يبلغ عدد سكانها اضعاف عدد سكان محافظات كاملة ولكنها لا تتمثل الا بنصف عدد المقاعد المخصصة لهذه المحافظات، وهذا صحيح تماما، فالمعايير الثلاثة التي طبقت جعلت من محافظة معان بعدد سكان يساوي حوالي 10% من عدد سكان محافظة الزرقاء ،تتمثل بخمسة مقاعد بينما لا تتمثل محافظة الزرقاء بدائرتيها وعدد سكانها الذي يراوح المليون ونصف نسمة سوى بثلاثة عشر مقعدا ،وهذه المعايير الثلاثة هي نفسها التي طبقت في احسن الديمقراطيات في العالم وإن اختلفت الظروف والاسباب ،فولاية الاسكا الاميركية التي يبلغ عدد سكانها اقل من مليون نسمة لها نفس عدد مقاعد ولاية كاليفورنيا في مجلس الشيوخ علما بأن عدد سكان ولاية كاليفورنيا يساوي اربعين مليونا .!
هناك معايير تطبق عند تخصيص المقاعد للدوائر الانتخابية بعيدا عن اية قسمة سياسية ،ففي نهاية المطاف الجميع امام التشريعات الانتخابية وغير الانتخابية اردنيون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات ،اما عدد سكان الدوائر فأحد هذه المعايير ليس أكثر، فالمساحة الجغرافية معيار مهم جدا، وكذلك معيار التنمية وحصة هذه الدائرة او تلك من مقومات هذه التنمية ومنافعها ومستوى معيشة الناس والبنى التحتية وغيرها من التفاصيل .
احد المهتمين بالشأن الانتخابي قال في ندوة عامة جلبت له المشاكل ان غير المعجبين بالنظام الانتخابي وخاصة الجزء المتعلق بعدد الاصوات الممنوحة للناخب مستعدون للهتاف لأي نظام بما في ذلك الصوت الواحد لو جرى تعديل عدد المقاعد الممنوحة لدوائرهم الانتخابية ذات الكثافة السكانية العالية في العاصمة ،اي ان ما افادت به التقارير الغربية من ان الاردنيين من اصول فلسطينية يقاطعون - ولديهم الرغبة في المشاركة - لكنهم يرون الامر بلا جدوى بسبب الظلم الذي تعانيه دوائرهم نسبة الى عدد المقاعد الممنوحة لها ،وهؤلاء مستعدون للقبول بأي نظام انتخابي شريطة رفع عدد المقاعد المخصصة لهم بنسبة تعكس حجمهم السكاني الحقيقي في البلد دون اي اعتبار للحجم السياسي للاحزاب التي تستقطبهم وهو بالمحصلة حزب واحد هو حزب جبهة العمل الاسلامي الذي يعمل بينهم معتمدا على موضوع رئيسي واحد هو فلسطين وربط تحريرها بالتدين السياسي.