منذ سنوات تتزعم الحكومة وبعض المهتمين حكاية أن لا مستقبل للدراسة في الأردن إلا عبر التوجه نحو أطر التعليم والتدريب المهني والتقني بذريعة أنها هي الحل السحري لتكدس خريجي الجامعات وأنها المطلوبة في سوق العمل.
إن الدولة الأردنية وبدون مواربة قاصرة عن إيجاد الحلول لقضايا التعليم والصحة والعمل.. وهذا يعود ليس لعجز مقيم في شرايين الدولة وإنما لمعطيات جيوسياسية وتراكم قرارات ادارية وتنظيمية فاسدة ومفسدة.
يتحدث وزير العمل عن تحذير طلبة الثانوية العامة بضرورة عدم الالتحاق فيما تدعى بالتخصصات المشبعة والراكدة، لكنه هو وديوان الخدمة المدنية لم يقدما البديل ما يمكن تسميتها بالتخصصات المطلوبة أو المتحركة.
ويتحدث مجلس التعليم العالي عن امكانية إغلاق الالتحاق بالتخصصات المشبعة والراكدة في الجامعات والذي تغير إلى اتخاذ قرار بتحديد نسبة الملتحقين فيها دون الغائها تماما.
لقد بحثت وتابعت شؤون التعليم في دول العالم كافة، ولم أقرأ أو أسمع عن دولة قامت بإلغاء كليات أو تخصصات بالشكل الذي ينادي به البعض لدينا.
إن التعليم المهني هو مسار من ضمن المسارات التعليمية التي يتم طرحها كخيار من جملة خيارات أمام الطلبة، ولم تدرس لغاية الآن أو يتم تقييم ومراجعة لإنشاء جامعة البلقاء التي جاءت نتيجة دمج وتوحيد كليات المجتمع المتفرقة قي مختلف المحافظات ورفع درجتها الأكاديمية لتمنح البكالوريوس والدرجات الأعلى بحيث أخذت صفة كليات جامعية، وهي الجامعة الوحيدة التي لها فروع في مختلف محافظات المملكة ، فيما يمنع القانون فتح فروع للجامعات الرسمية من خلال ما تدعى بمكاتب الارتباط ، باستثناء فرع العقبة للجامعة الأردنية والذي لم يتم التحقق من جدواه العلمية والمالية.
إن فكرة جامعة البلقاء التطبيقية وجامعة الطفيلة التقنية والآن جامعة الحسين التقنية ، لم يتم المتابعة والتقييم الفعلي لنتاجاتها بحسب غاياتها التي أنشئت لأجلها والمتمثلة بتدريس التخصصات ذات البعد التقني والتطبيقي.
كما أن توالد الجامعات في المحافظات كان لها آثار ونتائج إيجابية من حيث تنمية المجتمع المحلي المحيط بالجامعة، لكنها بالمقابل لم تشكل رافعة علمية وأكاديمية حقيقية بقدر ما أصبحت عبئا ماليا على الخزينة العامة، ولولا محاولات تشجيع الطلبة من المناطق والمحافظات ذات الكثافة الطلابية للتوجه والدراسة في تلك الجامعات من خلال مجانية الدراسة ومنح الطالب مكافأة شهرية أثناء دراسته، لأغلقت تلك الجامعات أبوابها وأصبحت مجرد حمولة زائدة من بطالة مقنعة ، هي الآن باتت ملاحظة في أكثر من جامعة ومن موقع أكاديمي.
لا يجوز ولا ينبغي أن نضحك على أنفسنا وعلى طلبتنا بأن نطلب منهم بعد حصولهم على الدرجة الجامعية الأولى أو أكثر بأن يلتحقوا ببرامج تدريب مهني هي في الأساس مصممة لمن هم دون الثانوية العامة.
كما لا يجوز أن نضع العوائق والتهديدات والتحذيرات أمام أبنائنا من الطلبة دون توفير البدائل الدراسية الفعلية.
عندما يوصي وزير العمل بما يأتي : وطالب وزير العمل الطلاب بالتفكير في اختياراتهم المستقبلية، والتوجه إلى تخصصات "مهنية وتقنية بدلاً من الأكاديمية”. ينبغي أن نتساءل ما هي التخصصات المهنية والتقنية المتاحة أمام خريجي الثانوية العامة وأين وكيف، وعلينا أن نتساءل من هو الضامن لتشغيل الطلبة في تلك البرامج بعد تخرجهم منها.
هل التخصصات التي يتحدثون عنها تحت مسمى المهنية والتقنية ستبقى متاحة ومطلوبة في سوق العمل ولأية فترة قادمة.
إن المطلع لما تدعى بدراسة ديوان الخدمة المدنية حول التخصصات المشبعة والراكدة والمطلوبة تتحدث عن تخصصات لا أدري في أية جامعة أو كلية يمكن لطلبتنا الالتحاق بها على فرض الإذعان لتوجيهات دراسة الديوان وكم هو العدد الذي يمكن أن تستوعبه تلك التخصصات. والسؤال الأخطر ونحن نتحدث عن عجز في موازنة جميع الجامعات الرسمية بلا استثناء، والتي تسعى لزيادة أعداد الطلبة الملتحقين في كلياتها وتخصصاتها، كيف لها أن تتعاطى مع فكرة الإغلاق لعشرات التخصصات أو عدم التسجيل فيها لمدة زمنية لا تقل عن خمس سنوات، وهل تقوم الجامعات بإغلاق الكليات مثل كليات التربية والآداب والزراعة والرياضة وعديد من الأقسام في كليات أخرى.
إن نتائج الثانوية العامة لهذه الدورة الصيفية للعام 2109 بينت حصول أكثر من 12 ألف طالب على معدلات فوق 90%، وإن هناك جامعات عديدة تسعى طوال الوقت لزيادة أعداد الملتحقين فيها في مختلف الكليات والتخصصات من أجل ما يدعى الطاقة الاستيعابية واقتصاديات أو كلف التعليم التشغيلية والرأسمالية.
كيف نوازن بين كل هذه المتناقضات ؟
إنني لا أرى أي حل بالطرق التي يقدمها أصحاب القرار الحكومي. فأنا لست مع تجميد أو إلغاء القبول فيما تدعى بالتخصصات الراكدة والمشبعة، لست مع فزعة ما تدعى بالدعوات للتوجه نحو التعليم المهني والتقني بالهيئة الحالية.. لست مع الطلب من الخريجين العاطلين عن العمل بالتوجه للتدريب المهني في مجالات هي أصلا مخصصة لمن هم دون الثانوية العامة، ولم يثبت حقيقة الحاجة إليها في سوق العمل بالشكل الذي يطرح إعلاميا..
أما حكاية تأسيس هيئة تدعى بهيئة تنمية المهارات فهذه لها مقام ومقال آخر.