قبل الاجابة على التسائل أعلاه، علي أن أبدأَ بتعريف الثقافة لان معظمنا يستخدمها استخداما خاطئا، ويربطون ما بين الثقافة وبين المؤهل العلمي بحيث أنه كلما ارتفع المؤهل العلمي يُعتبرُ الشخص مثقفا أكثر. والصحيح، أنهُ لا يوجد عامل ارتباط ما بين المؤهل العلمي وبين الثقافة، أو أن مُعامل الارتباط ليس طرديا بل قد يكون العكس هو الصحيح . فقد يكون الشخص الأميُ مثقفا بينما لا يكون حامل شهادة الدكتوراة مثقفا بثقافة مجتمعه.
يشمل مفهوم الثقافة "العادات والتقاليد والاعراف وأنماط اللباس والاحتفالات والقوانين الرسميه والشعبية واللغة وادابها والدين وطقوسه والفنون بتفرعاتها من غناء وموسيقى ورسم ونحت ومسرح، وقائمة الطعام وطقوس طبخه وتناوله التي يختص بها مجتمع دون غيره من المجتمعات وتميزه في معظمها عن المجتمعات الاخرى. على سبيل المثال طقوس الزواج وطقوس العزاء. الاكل الشامي مقارنا بالعراقي. الهنود لا يأكلون لحم البقر. واهل مصر يرفضون اكل المنسف الاردني بالجميد الكركي. لانهم يرفضون اكل اللحم المطبوخ باللبن تأثرا بالموروث من الثقافة اليهودية حسب التوراة.
بناءاً على هذا التعريف فإن الشخص المثقف هو ذاك الذي يحترم ويلتزم في سلوكه وتعامله وقناعاتهِ بثقافة مجتمعه ابتداءاً من مجتمعه الصغير في قريته وانتهاءا بمجتمع دولته ولا يتبادر الى ذهنه الميل الى تغييرها او يرفض تغييرها. فمن تعود على الدشداشه في القرى يصعب عليه تقبل اللباس المدني. الهنود والباكستانيون يرون في لباسهم أنه اجمل واكثر مرونة وراحة من اللباس الغربي. وكذلك الافارقة.
نُعيدُ السؤال الان بناءا على ما تقدم: هل ينطبق تعريف مثقف على رجل الدين؟
الجواب ببساطة هو النفي. والسبب أن رجل الدين، أو إن أحببتم العالم الديني هو رجل يقين. رجل الدينِ يؤمنُ أنه يحتكرُ الحقيقةَ، وأنَّ مرجعيته ليس ثقافة الشعب، وإنما كتبه المقدسة ومراجعه الدينية والتاريخية. هذه الكتب والمراجع هي المسطرة التي يقيس عليها سلوكياته وارائه وسلوك الاخرين وارائهم. فمثلا، لا يعترف رجل الدين الاسلامي لا بالقانون العشائري ولا بالقانون المدني الذي تُطبقهُ المحاكم ويفضل الشريعة الاسلامية. كما يرفض الكثير من عادات وتقاليد واعراف مجتمعه اذا كانت لا تتوافق مع مرجعيته. من المؤكد أن ينكر عليك رجل الدين بلسانه أو بقلبه، إن بادرته التحية بقول مرحبا او صباح الخير، أو إذا رآك تدخل بالقدم الخطأ الى حمام المسجد، أو إذا شاهدكَ تستمع لأغنية لنجاة الكبيرة أو عبدالحليم الاطرش. رجل الدين له لباس يختص به يختلف عما يلبسه بقية الناس. والاختلافات كثيرة.
الباحثون ايضا لا ينطبق عليهم لقب المثقف. لعالم الفيزياء او الباحث في الفيزياء مُسلمات تختلف عن مسلمات مجتمعه. قد يتقاطع باحث الفيزياء او الباحث في العلوم السياسية او عالم التاريخ مع مجتمعه في بعض عناصر الثقافة مثلا كاللباس والطعام. ولكن لا يوجد حالة تطابق شامل. هذا مع الاخذ بعين الاعتبار مدى اتساع نطاق بحث الباحث وتشعبه وأفاقه وتواصله مع الثقافات الاخرى.
يَعتبر المتخصصُ في اللغة العربية وكذلك رجال الدين والعوام، اللغة العربية أكمل اللغات، وأنها لغة الملأ الاعلى ولغة اهل الجنة. هذه مُسلمةٌ من مسلماتهم. لكنها ليست مسلمة عند من يستخدمون اللغات الاجنبية كالفرنسية او الانجليزية او الاسبانية بفعالية قراءةً وكتابةً خاصة في الابحاث الاكاديمية او في التقارير المتخصصة. هؤلاء يُمكنهم تقديم عشرات الامثلة على قصور اللغة العربية. وكذلك الامر بالنسبة لما كتب ويكتب باللغة العربية من شعر ورواية مقارنة مع ما يكتب في اللغات الاخرى. لا اقصد من ذلك المس باللغة العربية. فقد ينطبق ذلك عند مقارنة اللغة العبرية مع اللغة الفرنسية، او اللغة البرتغالية او المجرية مثلا مع اللغة الانجليزية أو الروسية.
النقطة الجوهرية والمحورية في الفرق بين المثقف وغير المثقف، هي أن المثقف هو من يقبل ويسلم ويرضا ويتعامل بأريحية بثقافة مجتمعه ولا يشكك بأي من عناصرها. هذا التعريف ينطبق على العوام فقط. ولا ينطبق على الباحث. لأن الباحث ينطلقُ دائماً من فرضية الشك. الباحث لا يُسلمُ دائما وعلى الاطلاق. هذا لا يعني أن الباحث سَيُخضع تذوق الناس لاغاني فيروز للبحث العلمي، وإن كان يجوز له أن يبحث في اسباب تفضيل البعض لاغاني فيروز على اغاني صباح مثلا، او على الاغاني السودانية او العكس.
التمرد على الثقافة يشترك فيه كافة الباحثين، ويشاركهم في التمرد اجيال الشباب المتتالية. لكن الفرق جد كبير بين تمرد الباحثين العقلاني المؤدي الى الفحص والاختبار والتيقن، وبين تمرد الشباب الذي يميل الى كسر القيود.
لذلك، فإن كلمة مثقف لا تنطبق على جميع الناس على الاقل في مرحلة من مراحل حياتهم وهي مرحلة المراهقة والشباب.
مرة اخرى: المثقف هو الملتزم بثقافة مجتمعه التزاما كاملا وشاملا ولا يُخضعُ أي عنصر من عناصرها للشك أو الاستقصاء، وَيُجرم من يخرج عنها.