كانت تلك الكُتبُ بورقِها العتيق الأصفر ورائحةِ دُخان السّجائر المُلتصِقِ بها، كُتُبٌ طبية مُعظمها بالرّوسيةِ، لذلك لم أفهمها، كانت هي من انتقلَتْ بوعيي وإدراكي إلى منزل الجدّة وإلى تلكَ الغُرفةِ تحديدًا قبل أكثرِ من سبعةِ أعوام، تغيّر ترتيبُ الغُرفةِ كثيرًا عمّا مَضى، ولكنّي أستطيعُ أن أذكُرَها بالتّفصيل وأن أستحضرها في مُخيلتي.
الغُرفةُ مستطيلة الشّكل كبيرةٌ، كانت تتسِعُ لتجمُعاتِ أفرادِ العائلةِ جميعهم، من أعمامٍ وأحفادٍ، أذكر الأرائك ذات اللونِ الرّماديِّ الدّاكن، وأذكُر ترتيبها حيثُ أن أكبرها كانت مركونةً في إحدى واجهاتِ الغُرفةِ وحدها، وعلى الجانبين رُتِبتَ باقي الأرائك الأصغر، كان هناك جهازُ حاسوبٍ بشاشةٍ كبيرةٍ، أذكُر كيف أنّه كان سبب شِجارنا نحنُ الأحفاد، وسبب ضحِكاتنا في الأوقاتِ الأُخرى حين يلعبُ أحدُنا عليه ويجلسُ الباقي كالمُعلّقين قائلين: اتجه يمينًا بل يسارًا.
في ليالي الشّتاءِ الباردة وعندما تُفصلُ الكهرباء بسبب الرّياح العاتية، يقومُ أحدهم بتحريكِ يديهِ؛ لنُخمِن الشّكل الّذي رسمهُ ظِلُّ الأصابع. وصيفًا نفتحُ فيه بابي الغُرفة وتدخل الشّمس مُخترقةً المكان، ونتسامر بالأحاجي الّتي يلقيها الكبار، أظنُ أنَّ مُعظمنا من الصّغار -مثلي أنا- لم يكونوا يفهمون كُلَّ الأحاجي، ولكنّني أُجزم أنّ جميعنا كان مُستمتعًا. كان في الغُرفةِ أيضًا الكُتب ذاتُها، الّتي تعودُ لعمّي الطّبيب، فالغرفةُ في الأساس له، كان شخصًا هادئًا جدًا، ومرحًا، ومُدخِنًا شرِهًا. كُنا نجتمعُ في سيارتُه ونحنُ أكثر من عشرةِ أطفال ولا أعلمُ كيف كانت تتسِعنا جميعًا، ويأخذُنا في جولةٍ سريعة، كُنّا أطفالًا مُتمردين في الطّلب؛ وذلك لأنّنا ندرك بأنّه لن يرفُضَ لنا شيئًا.
سمِعتُ مسبقًا عن ارتباطِ الذّكريات بالرّوائح، ولكنّي لم أُدرك أنّها قادرةٌ على تحفيزِ مراكِز الذّكرى لهذا الحدّ، سعيدةٌ أنا؛ لأنّها أعادت لي هذهِ الأيام، أيامُ الطّفولةِ، والشّقاوةِ، في ذلك الوقت الّذي كان عمّي الطّبيبُ أُسامة بكامِلِ صِحتِه وعافيتِه، قبل أنْ ينالَ منه المرض، ويتوفاهُ الله.
أعلمُ أنَّ الموتَ راحةٌ، الموتَ رحمةٌ، الموتَ حقٌّ، ولكنّه في النّهايةِ وداعٌ مُؤلمٌ، ورحيلٌ مُقبضٌ. أربعون ألف سنةٍ من لُغةِ الإنسان، ستُة آلاف وخمسُمئةِ لُغة يتحدثُ بها العالمُ اليوم، ولا توجدُ كلمة عزاء قد تُسكِتُ الحزن القابع إثر موتِ أحدهم.
فحينَ يموتُ أحدُهم، أنتَ لن تستطيعَ أن تلمسَ وجهَهُ مرّة أُخرى، لن تستطيعَ أن تُخبرَهُ كم يبدو وسيمًا حين يرتدي القميص الأزرق السّماوي، وكم أنّه رائعٌ حين يتحدّث بطريقةٍ مُنمقةٍ، كم أنّه مُميزٌ بتفرُدِهِ وأنّه لا يُشبِه أحدًا، لن تخبرَهُ أنّهُ مُختلفٌ فقط بكونِه هو كيفما كان، إنْ حلق ذقنَهُ أو لم يفعل، إن فقدَ بعضًا من الغرامات أو اكتسبها، إنْ وضع القليل من المساحيق أو لم يضع، لن تستطيع أن تُخبرَهُ عن نكاتِكَ السّخيفة أو تسمعها منه، لن تستطيعَ أنْ تأخُذ رأيهُ بتسريحةِ شعرِك الجديدة أو البنطال الّذي اشتريته البارحة بسعرٍ مُخفضٍ، لن تستطيعَ أن تُحادِثهُ عن موقف أثارَ استيائكَ، ثُمَّ تُخبره كم أنّك محظوظٌ لوجودِ من يستمعُ لك بقلبهِ، لن تستطيعَ أن تخبره عن أمنياتِك له من أيامٍ سعيدةٍ ونجاحاتٍ مُتكررة وراحةٍ واطمئنان في يومِ ميلادهِ، لن تخبره كم أنّه مُلهمٌ لك، لن تستمعَ لتوبيخه حين يغضبُ عليكَ؛ لأنّه يُحبك، ثُمّ يُداعب شعرك حينًا آخر كنوعٍ من الاعتذارِ.
خُذوا وقتًا كافيًّا؛ لتُخبروا عائلاتكم، أصدقاءكم، أحباءكم أنّهم مُهِمون بالنّسبةِ لكم، وأنّهم مُميزون كما هم، وأنّ الحياة تبدو خفيفةً بقُربِهم.