لم نبتعد كثراً عن تداعيات اغتيال مراسلة قناة الجزيرة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، الحدث الذي فتح كل النوافذ على تفاصيل القضية الفلسطينية جامعاً كل الاجندات الفصائلية لتذوب فيه، حيث ارتقت روحها الطاهرة إلى بارئها، أمس الأول، برصاصة قناص إسرائيلي محترف، وبإرادة مسبقة، أردتها قتيلة
وفي الحال انتشر الخبر على صعيد عالمي من خلال المحطات المتلفزة وعبر الفضاء الرقمي المسموم؛ لتُسْتَهْدَفُ من جديد في محاولة تضليلية يائسة لاغتيال شخصيتها برصاص الجيش السيبراني الإسرائيلي من خلال إشعال الفتنة الطائفية من حولها عبر الفضاء الرقمي، والتي أنيطت بالذباب الإلكتروني الذي اوقدها، فيما أذكاها الجهلة والمتصهينون المارقون، من خلال إطلاق التساؤل التالي حول جواز الرحمة على شيرين كونها من الدين المسيحي، أو وصفها بالشهيدة!؟ مع انها فلسطينية تحب الجميع وتدافع عنهم، ومواطنة مقدسية حباها الله بعينين تطلان على تفاصيل الوجع الفلسطيني، وتشهدان على جرائم الاحتلال، ناهيك عن كونها صاحبة أجندة وطنية مخلصة، لا تؤمن بالجهوية، وتعتبر المسجد الأقصى وكنيسة القيامة مقدسات دينية يستوجب الدفاع عنهما من قبل جميع الفلسطينيين!"
إذن.. دعونا نفكر خارج الصندوق فيما يتعلق بجريمة اغتيال الأيقونة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، برصاصة ليست "طائشة" كما يروج له الإعلام المتصهين، استنساخاً لما قاله، رئيس وزراء "إسرائيل" بنيت؛ بل أنها رصاصة لها عيون ومجسات، خرجت من فوهة بندقية إسرائيلية الصنع والإعداد، بقرار عسكري صادر عن إحدى المؤسسات العسكرية، أُوْعِزَ من خلاله للقناص الإسرائيلي كي يستعدَّ للموقف.. مستحكماً خلف سور إحدى أسطح البنايات المقابلة لمنطقة الحدث.. باحثاً عن أنسب مكان يتوارى خلفه.. موجهاً بندقيته الحديثة نحو فريق الجزيرة الإخباري؛ لاستهداف أعلى صوت فلسطيني كان شاهداُ على كل جرائم الاحتلال الإسرائيلي، في غزة والشيخ جراح وسلوان، والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ناهيك عن نابلس والخليل، وصولاً إلى جنين، حيث نُصِبَ لها هذا الفخّ المتواري خلف الدعاية الإسرائيلية في أن الصحافة محمية ما دام الصحفيون يلتزمون بشروط السلامة الشخصية، على نحو ارتداء السترات الواقية من الرصاص، والمطبوع عليها كلمة صحافة في منطقتي الصدر والظهر، بالإضافة إلى ارتداء الخُوَذْ الوقائية، واستخدام سيارات تحمل علامات المؤسسات التي ينتمون إليها.
وكانت شيرين ممن تقيدوا بهذه الشروط، ناهيك عن كونها وجهاً مألوفا لكل متابعي الأخبار في العالم.. ورغم كل ذلك ألجم صوتها برصاصة إسرائيلية. ويبدو أن النية كانت مبيتة لجر فريق الجزيرة إلى عمق المخيم كي تنجح الدعاية الإسرائيلية في أن الرصاصة التي اصابتها كانت طائشة، وأعدوا مسبقاً للحدث، فيديو توثيقي تم سحبه بعد نشره وتعرضه لانتقادات، لعدم تطابقه مع الحقيقة.
ولا شك أن تحركات فريق الجزيرة كانت مرصودة، وصولاً إلى ساعة الصفر الجديدة كون الفريق تمركز خارج منطقة الاشتباكات، ليتحول قرار الاغتيال إلى الخطة البديلة.
كانت عين القناص تنشن على الهدف، واختارت من الراس المثقل بالخوذة تلك المنطقة المكشوفة تحت الأذن، وفي أجزاء من الثانية يتصلب شاهد يده المتراخي ضاغطاً على الزناد، فتنطلق رصاصة الموت إلى هدفها الذهبي، وتسقط شيرين على الأرض مدرجة بدمائها، لافظة أنفاسها محتضنة ثرى جنين، وارتقت روحها إلى بارئها على الفور.
كان فريق الجزيرة منهمك بتوثيق تفاصيل الجريمة النكراء في محاولة منه لتعزيز رواية الحقيقة وانطلق آخرون لنجدتها، وقد حاصرتهم رصاصات القناص الذي حافظ على توازنه وبدأ في تصيّد الفريق ومحاولة منعه من الوصول إلى جثة الضحية، شيرين. ونجم عن ذلك أيضاً إصابة الصحفي الفلسطيني علي سمودي في منطقة الكتف، وكان شاهداً على تفاصيل الجريمة.
وبعد رحلة طويلة بين بعض المدن الفلسطينية، وعبور الحواجز الإسرائيلية الممانعة، يستقر جثمان الشهيدة الطاهر الذي حُمِلَ على الأكتاف في مخيم جنين ورام الله والقدس، في إحدى ثلاجات الموتى بالمستشفى الفرنسي في مسقط رأسها، القدس المحتلة، بعد خروج الجثمان من مستشفى ابن سينا في جنين التي شهدت استشهادها، ونقله الى مقر المقاطعة في رام الله، حيث تم منحها وسام نجمة القدس (وكنت أتمنى أن تعلن السلطة عن انسحابها من اتفاقية أوسلو والوقف الفوري للتنسيق الأمني وعدم استغلال الحدث لتبييض الوجه المكفهر).
ويوم غد من المنتظر خروج الجنازة من كنيسة الروم الكاثوليكية لتدفن يوم الأحد في مقبرة صهيون.
التحقيقات ما زالت مستمرة وتتولاها الأجهزة الأمنية الفلسطينية والنيابة العامة، ومختبر الطب الحنائي، حيث تم أخرج أجزاء رصاصة وبعض الشظايا من رأسها الذي وصفته زميلتها جيفارا البديري بأنه بدا مفتتاً من الخلف نتيجة انفجار الرصاصة.
من جهته رفض الرئيس محمود عباس التحقيق في الجريمة من خلال لجنة تحقيق مشتركة؛ لأن النتيجة ستخضع لمعايير القاتل الأقوى، الذي سيفرض الصيغة القانونية التي من شانها أن تخلصه من تهمة القتل.
وبلا شك فأن الحرز لو تمت الموافقة على تشكيل الفريق أعلاه، سيحفظ لدى اللجنة المشتركة التي تجمع بين القاتل والضحية في سابقة لا تنسجم مع الواقع.
وكون العالم برمته ينتظر النتائج التي من شأنها تحديد هوية القاتل والبحث في الدوافع، فإن "إسرائيل" ستعمل المستحيل لحجب الحقيقة وسوف تلجأ إلى عدة خيارات؛ لتبرئة ساحتها، وإن كان الأمر في مثل هذه الجريمة سيبدو مستحيلاً لأن الجريمة وقعت في دائرة الضوء.
وقد تبنت عدة جهات التقدم إلى النيابة العامة لرفع الدعاوي وتقديم لوائح اتهام بحق الجناة الصهاينة في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، بدءاً من أهل الضحية، وقناة الجزيرة حيث استشهدت وهي على راس عملها، والسلطة الفلسطينية (ربما كورقة سياسية ولتخفيف حدة الغضب الفلسطيني) ونقابة الصحفيين الفلسطينيين التي تحمل بطاقة عضويتها، ومنظمات إنسانية ومعنية بحرية الصحافة على نطاقين محلي ودولي، وهو ما تخشاه "إسرائيل" في ظل اتهامها بالعنصرية وممارسة التطهير العرقي، وتزايد الضغوطات عليها من قبل روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية، وتعرض هذا الكيان الإرهابي للمقاطعة التي تقودها حركة BDf في أوروبا.
والسؤال الذي يطرح نفسه.. وبعدما تخف حدة الغضب الفلسطيني بسبب اغتيال شيرين أبو عاقلة، فهل سيتوقف جيش الاحتلال عن اجتياح جنين ومخيمها!
ولو افترضنا جدلاً بأن القرار صار قيد التنفيذ فهل ستموت ظاهرة شيرين أبو عاقلة وهل سيصاب الصحفيون بفوبيا الدخول في قلب الحدث! ام أن للحقيقة فرسانها مثل الياس كرام وجيفارا البديري والعمري، وغيرهم!
والآن خذوا السؤال الأخطر.. فماذا لو عبثت جهة عميلة للاحتلال الإسرائيلي بالدلائل لأن القرائن المادية أقوى من الشهادات الحية.. مثلما حدث مع جريمة اغتيال الراحل الكبير ياسر عرفات! ومحمد الدرة رحمهما الله!
وماذا لو ضغطت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من خلال سلطة التنسيق الأمني على قيادات السلطة بالعبث بالأحراز المحفوظة لدى النيابة الفلسطينية، من خلال التهديد بفتح ملفات اغتيال عرفات! أو قيام السلطة بتحويل هذه الاحراز إلى ورقة سياسية ضاغطة يمكن استثمارها فلسطينياً في سياق ما!
ففي عالم يسوده الرياء، وينتشر فيه الفساد، وتشرذمه الصراعات، وتتعدد فيه المكاييل؛ كل شيء جائز.
شيرين ليست أول الشهداء ولن تكون آخرهم في حرب طويلة الأمد، ضد آخر استعمار ما لبث جاثماً على صدور الفلسطينيين.. ولولا المقاومة لانتهى كل شيء.
رحم الله الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وكل شهداء فلسطين بكل طوائفهم، منذ النكبة والنكسة، حتى زمن المقاومة المجيدة.